في معنى الحاكم والحكم الآن وهنا في الجمهوريّة اللبنانيّة القتيلة
عقل العويط
في الأحوال والظروف العاديّة التي تمرّ بها الدول وتعيشها المجتمعات، لا تُرتجى من الحاكم والحكم، المستحيلات والبطولات والاجتراحات العجائبيّة، بل فقط أنْ يحكم بالعدل. بالقانون. وفق الدستور. هذه، على كلّ حال، بطولةٌ لا تعدلها بطولة. وقد أصبحت هذه البطولة بين الحكّام عملةً نادرة. شبه مستحيلة.
في الأحوال والظروف الاستثنائيّة، كالتي تمرّ بها بلدانٌ مضروبةٌ بالفساد والقهر والظلم والفقر والجوع واليأس والمهانة واللعنة، كبلادنا، كبلادنا اللبنانيّة الصغيرة، يُرتجى من الحاكم والحكم ما يُرتجى من الثائر القدّيس البطل. وما يُرتجى من لاهوت التحرير. أنْ يزور الناس في كوابيسهم (بسبب فرار الاحلام)، لا ليخفّف عنهم وطأة هذه الكوابيس، بل ليتقاسم وإيّاهم تلك الكوابيس. بل أيضًا ليشيلها عن قلوبهم.
هذه هي “وظيفة” الحاكم والحكم مطلقًا. فكيف لا تكون هكذا هي “الوظيفة” عندنا، الآن وهنا؟!
إنّ الحاكم هو “موظّفٌ” عند البلاد التي ائتمنته على مصيرها، و”موظّفٌ” عند الجماعة (الناس، المواطنون) التي وجدتْ فيه ناطقًا باسمها وأمينًا على عيالها ومستقبل أجيالها.
أقول “الحاكم”، وأقصد الحكم، مثلما أقصد الحاكم بشخصه وفريق عمله، مثلما أقصد القوى التي تمثل وراءه (أو أمامه)، وتتحكّم به، وتديره، مثلما أقصد السلطات، السلطات كلّها، التي تتولّى شؤون الدولة والناس.
أنْ يكون المرء حاكمًا، في حالاتٍ وظروفٍ كالتي تعيشها بلادنا ويعانيها مواطنونا، يعني أنْ يكون وجدانًا جمعيًّا لهؤلاء الناس، يعني أنْ يعرف مواطنيه هؤلاء، وما آلت إليه أحوالهم في عهده. أنْ يتعرّف إليهم. أنْ يدخل إلى بيوتهم من حيث لا يدرون ولا يقشعون، فيعيش ما يعيشونه، وينهمّ لما ينهمّونه.
أنْ يكون المرء حاكمًا، في حالاتٍ وظروفٍ كالتي تعيشها بلادنا ويعانيها مواطنونا، يعني أنْ “يتدروَش”. أنْ يتخلّى. أنْ يتواضع. أنْ يبيع ما فوقه وما تحته ليتماثل بهم.
أنْ يكون المرء حاكمًا، الأن وهنا، يعني أنْ يكون وجدانًا جمعيًّا للناس، يعني أنْ يمحو ذاته في الآخرين. أنْ ينحلّ فيهم. أنْ يصيرهم.
يعني أنْ يترك مقرّ حاكميّته، ويقيم حيث يقيم الفقراء، ويأكل طعامهم، ويشرب شرابهم، ويرتدي ثيابهم.
يعني أنْ يعيّد عيده، كما يعيّدون أعيادهم.
يعني أنْ يثور على ذاته. على فريقه. على حاكميه.
ويعني أنْ يبكي علنًا.
أعرف. أعرف. أعرف جيّدًا معنى هذا القول:
هذا تخلٍّ عن اعتبارات الذات الفرديّة ومصالحها، لا يعدله تخلٍّ، وتَسامٍ على هذه الاعتبارات والمصالح، لا يعدله تَسامٍ، وعبءٌ قلبيٌّ لا يعدله عبء الجبال لكونها جبالًا.
في الجمهوريّة الفاضلة، هذا هو الدور المقترَح للملك. للسلطان. للحاكم. للمسؤول.
في الجمهوريّة اللبنانيّة، الآن وهنا، لا.
يحملني شرف انتمائي إلى لبنان واللبنانيّين، مثلما يحملني الصدق، الصراحة، الوجع، والشجاعة الأخلاقيّة، مثلما يحملني الوجدان الجمعيّ للناس، على قول ما يأتي:
لا هجاءً لأحدٍ، ولا تعريضًا بأحدٍ، ولا نيلًا من أحد. البتّة.
أكرّر: البتّة.
بل هذا:
الدور المقترَح للحكم، للحاكم، وأقصده بشخصه وفريق عمله، مثلما أقصد القوى التي تمثل وراءه (أو أمامه)، وتتحكّم به، وتديره، مثلما أقصد السلطات، السلطات كلّها، التي تتولّى شؤون الدولة والناس…، الدور المقترَح للحكم وللحاكم في لبنان، أنْ يظلّ حكمًا وحاكمًا، وإنْ على مقبرة لبنان، ومقبرة المواطنين الجماعيّة، ومعه فريق عمله، والقوى التي تمثل أمامه أو وراءه، وتتحكّم به، وتديره، مثلما أقصد السلطات، السلطات كلّها، التي تدير شؤون الدولة والناس.
إنّي أبكي ما آل إليه الحكم والحاكم في لبنان. لا بكاء الخانع أبكي، بل بكاء النهر الذي يأخذ كلّ شيءٍ في طريقه إلى البحر.
هذا ما أردتُ قوله في معنى الحاكم والحكم، الآن وهنا، في الجمهوريّة اللبنانيّة القتيلة. عشتم وعاش لبنان.