كتب رامي الريس في “النهار”:
السياسة الخارجية اللبنانية كانت ولا تزال موضع إنقسام بين اللبنانيين (أسوةً بالعديد من العناوين الأخرى)، إذ تحكمت بها الإنقسامات المحلية والتأثيرات الخارجية التي بقيت العنصر الأبرز في تحديد معالمها وصولاً إلى إلغائها في ذروة حقبة الوصاية على لبنان وإستلحاقها بالسياسة الخارجية السورية.
لقد تعّدد اللاعبون الإقليميون وتنوعت هوياتهم بما يتلاءم طبعاً مع مصالحهم في لحظة سياسية ما. وإذا كان التعّثر في رسم السياسة الخارجية بدأ منذ ما سُّمي “الميثاق الوطني” عبر تخلي قسم من اللبنانيين عن المطالبة بالحماية الفرنسية مقابل تخلي القسم الآخر عن المطالبة بالوحدة العربية؛ فإن هذا التعثر القائم على النفي المتبادل إستمر ولو بأشكال مختلفة في حقبات تالية. لا بل يمكن القول أن سياسة النفي المتبادل كرست نفسها في صلب المعادلة اللبنانية، حتى الداخلية منها، وهي حلت محل سياسة المساحة المشتركة التي كان يفترض بلورتها بين اللبنانيين. هذا يعني إستبدال الإلغاء والإلغاء المضاد لما له من تداعيات سلبية لا بل عنفية أحياناً بسياسة المراكمة على المشترك بين اللبنانيين وتطويره.
بطبيعة الحال، ليس المطلوب الدخول في تمرين نظري في هذه المقالة بما يتيح تركيب بعض المسلمات التاريخية أو يعيد صياغتها بشكل يتناسب مع طموحات اللبنانيين وتطلعاتهم، ولكن المؤسف أن الأمر الراهن لا يزال على حاله لا بل أصبح أكثر سوءاً مع المغامرات التي تمارسها بعض القوى السياسية عبر تلاعبها المتواصل بالتوازنات الداخلية مع كل ما يتركه ذلك من تداعيات وإشكاليات.
لقد أدى التضييق المتلاحق المطلوب (أقله مرحلياً) بين الخطاب الرسمي و”خطاب المقاومة” إلى تقهقر علاقات لبنان الخارجية لا سيما العربية منها. وهنا، لا تكفي الإشارة إلى الإحتضان العربي لمئات الآلاف من اللبنانيين تاريخياً، رغم أهمية هذا الأمر ورمزيته وولادته الكبيرة مقارنةً مع ضحالته لدى لاعبين إقليميين آخرين؛ إلا أن الاهم هو هوية لبنان العربية التي حمسها إتفاق الطائف وتكرست في الدستور اللبناني، مع التذكير أن لبنان كان عضو مؤسس وفاعل في جامعة الدول العربية بمعزل عن تعثر هذا الإطار المؤسساتي وفشله في الإرتقاء بالعمل العربي المشترك إلى حيث تتطلب “المصالح” العربية الجماعية أقله من الناحية الإقتصادية والمصلحية بعيداً عن الخلفيات الفكرية أو العقائدية التي باتت تتطلب قراءة جديدة تتلاءم مع طبيعة المتغيرات الدولية وإنعكاساتها على المنطقة العربية برمتها.
إن هذا الالتصاق التام الذي تبلور في عهد الرئيس ميشال عون بين الخطابين دمر علاقات لبنان الخارجية، فبعد أن كان الرئيس اللبناني يتحدث بإسم العرب جميعاً أمام الأمم المتحدة (الرئيس الراحل سليمان فرنجية في السبعينات) صارت لقاءات الرئيس اللبناني في نيويورك تقتصر على لقاء يتيم مع الرئيس الايراني وقوفاً (طبعاً ناهيك عن التكاليف الباهظة التي تتكبدها الخزينة جراء الرحلة التي يرافق الرئيس ويواكبه فيها نحو 100 شخص دون أي إعتبار أن البلد مفلس شفير الانهيار!).
لقد سبق أن وعد رئيس الجمهورية اللبنانيين بفتح النقاش حول الإستراتيجية الدفاعية بعد إنجاز الإنتخابات النيابية، ثم نكث بوعوده قائلاً أن لا لزوم لها، يقابل ذلك التكرار اللفظي لعبارات “الغموض البناء” التي يوفرها ثراء اللغة العربية حيال الأمر ذاته في البيانات الوزارية المتلاحقة. كان باستطاعة العماد ميشال عون عندما كان رئيساً لتكتل التغيير والاصلاح التأكيد اليومي على دعمه لسياسات طرف معين (حتى ولو عاكس كل أدبياته السابقة) ومواقفه وهذا حقه الديمقراطي، لكن بعد وصوله إلى رئاسة الجمهورية صار كلامه يمثل الدولة اللبنانية ويترتب عليه نتائج وتداعيات خصوصاً على مستوى علاقات لبنان الخارجية.
موقف مجموعة الدعم الدولية للبنان حاسم لناحية الاصرار على سياسة النأي بالنفس وإحترام قرارات الشرعية الدولية، وواضح أن المواقف السياسية المعلنة للعهد ويتاره السياسي لا تتطابق مع هذا الخيار، أقله تضمر عكس ما تعلن في هذا
لا بد من الاعتراف أن ثمة إشكالية تقليدية عميقة تتصل بآليات صنع السياسة الخارجية اللبنانية على الإنقسامات السياسية الداخلية والتشظي البالغ الذي تعانيه هذه السياسة جراء القصور عن بناء رؤية واضحة تحاكي المتغيرات والتحولات الكبيرة التي شهدتها وستشهدها المنطقة العربية والشرق الأوسط.
لقد آن الأوان لفتح نقاش وطني جدي حول السياسة الخارجية اللبنانية بما يسمح بإستعادة دور لبنان المفقود الذي تتلاطمه الأطراف الخارجية وفقاً لمصالحها وحساباتها. فبدلاً من الحماس الزائد لاستضافة حوارات فولكلورية حول أسس الحوار والتلاقي كالتي يسعى إليها رئيس الجمهورية، حرّي به فتح الحوار الداخلي حول القضايا الخلافية وفي طليعتها السياسة الخارجية والخطة الدفاعية وإلغاء الطائفية السياسية. ألم ينص الدستور على إنشاء الهيئة الوطنية المولجة نقاش آليات المباشرة بإلغاء الطائفية السياسية؟ أليس حرياً مناقشة هذا الفصل الأساسي في الحياة الوطنية اللبنانية بدل إفتتاح أكاديمية لتنظيم الحوار بين القبائل الأفغانية المتصارعة أو بين الشرق والغرب؟
إن المطلوب خطوات سريعة وحثيثة تعيد الاعتبار لدور لبنان وموقعه وتؤسس لترميم علاقاته الخارجية التي تدهورت وتردت بفعل بعض السياسات الصبيانية غير المسؤولة التي وصلت إلى حد إلغاء الصراع العقائدي مع إسرائيل وإقرار حقها “العيش بسلام”. هكذا مجاناً ودون أي قراءة تاريخية لمجريات الصراع العربي الإسرائيلي ومنعطفاته الأساسية والمفصلية؛ ووصلت في مجال آخر لوضع لبنان في مواجهة المجتمع الدولي وهيئاته ومؤسساته في ملف النازحين. إنها الشعبوية في السياسة الخارجية!