منذ إندلاع الإنتفاضة اللبنانية في خريف العام 2019، قرر بهاء الحريري (أو أن هناك من يقرر بالنيابة عنه) أن يستخدم قفّازاته بمخاصمة شقيقه الأبرز: مقالات تلمح إلى إمكانيّة ترؤسه الحكومة بعد إستقالة شقيقه سعد. تنشر زوجته الثالثة السعودية – البريطانية حسناء أبو سبعة صورة نجليْه يحملان العلم اللبناني تضامناً مع “الثورة”. ينشر صورته وهو يضع يده على عينه تضامناً مع جرحى الثورة عندما أصابت عين أكثر من واحد منهم رصاصات مطاطية أطلقتها قوات مكافحة الشغب.. إلى أن قرّر الرّجل الأكثر ثراءً، بين أخوته، خلع قفازاته في الذكرى الـ 15 لإغتيال والده.. واللّعب على المكشوف من خلال استخدامه عبارات ومصطلحات تدغدغ عاطفة شارع منكشف وإصداره بياناً يؤيّد فيه التظاهرات الدّاعية إلى رحيل منظومة الفساد.
لم تتوقّف الحرب الباردة بين الشقيقيْن عند هذا الحدّ. ما زاد الطّين بلّة هو ما قيل عن افتعال مجموعة تابعة لبهاء من خلال الرّجل المقرّب منه، حالياً، المحامي نبيل الحلبي، إشكالاً مع متظاهرين من “تيّار المستقبل” عند ضريح الحريري الأب، في وسط بيروت، قبل أن يقوم مستشاره الإعلامي الناشط جيري ماهر بتبرئة ساحة “الشيخ بهاء”.. ثم يقوم الأخير بإصدار بيانٍ لـ”توضيح الحقائق” يشرح فيه علاقته بوليد جنبلاط وأشرف ريفي والسعودية.
كلّ ذلك، وضع بهاء الحريري مجدداً في الحلبة الإعلامية ـ السياسيّة. صار للرجل فريق من المقرّبين أبرزهم، جيري ماهر ونبيل الحلبي، اللذان تُرسم حولهما العديد من علامات الإستفهام. الأول، جيري ماهر، هو إسم وهمي لشاب لبناني من آل الغوش من إقليم الخروب يقيم في دولة أوروبية ويطل دائما عبر الفضائيات ليُهاجم “حزب الله” ويتباهى بدعمه للعدو الإسرائيليّ.
أما الثاني، أي نبيل الحلبي الذي كان مقرّباً من سعد وانسحب من الانتخابات النيابيّة الأخيرة لمصلحة تيار المستقبل، فقد ارتبط اسمه، هو الآخر، بملف “مخطوفي أعزاز” (مجموعة لبنانية كانت في زيارة لمزارات مقدسة في العراق وتم خطفها، على يد فصيل سوري مسلح، في بداية الأزمة السورية في محافظة حلب بسوريا) وتربطه علاقات بعدد من رؤساء المجموعات المسلّحة في سوريا، وهو الذي أسّس “تنسيقيّة لبنان لدعم الثورة” قبل أن يؤسّس منظمة حقوقيّة تُدعى “لايف”.
خيار بهاء: تقاطع مصالح؟
إذاً، لم يعد بهاء وحيداً. بعضهم يتحدّث أنّ اقتراب ماهر والحلبي من دائرة الإبن الأكبر لرفيق الحريري يعني أحد أمرين:
أولهما، أن الرجل يريد الثأر بأي ثمن من أخيه الأصغر منه لأنه سرق منه مُلكاً وموقعاً وزعامةً، وتالياً، يضع يده بيد كل من يكون شريكه في الإنتقام الشخصي. وقد وجد ضالته في الثنائي ماهر ـ الحلبي.
ثانيهما، أن تكون إطلالة بهاء رسالة سياسيّة لسعد ممهورة بتوقيعٍ سعودي – إماراتي تحديداً، لا سيما إذا أدركنا أن ثمة “مونة” كبيرة، سياسية وأمنية، من الرياض وأبو ظبي، على هذين الرجليْن (الحلبي وماهر).
كان الإحتمال الأول هو الأرجح، قبل أن ترتفع أسهم الإحتمال الثاني، عند بعض المراقبين، وذلك مع ترحيب كل من وئام وهاب وشاكر برجاوي (ولكل منهما حيثياته في فريق 8 آذار/مارس) بظاهرة بهاء الحريري، علماً أن الأخير لم يقصر في إطلاق النار على حزب الله، حيث وصفه، في بيانٍ أصدره في العام 2017، بأنّه “الذّراع الإيرانيّة في لبنان”، معتبراً أن طهران “لاعب خارجي خبيث”.
تأييد وهّاب وبرجاوي لبهاء أثار شكوكاً بأنّ لـ”8 آذار” مصلحة في تعويم النجل الأكبر لرفيق الحريري، بهدف العزف على وتر جديد: تعدديّة الزعامات السنيّة بعد أن خبت مفاعيل أحاديّة الزعامة
وبالتّالي، فإنّ تأييد وهّاب وبرجاوي لبهاء أثار شكوكاً بأنّ لـ”8 آذار” مصلحة في تعويم النجل الأكبر لرفيق الحريري، بهدف العزف على وتر جديد: تعدديّة الزعامات السنيّة بعد أن خبت مفاعيل أحاديّة الزعامة التي نجح رفيق الحريري في ترسيخها بدعمٍ سعودي – سوري، وتحت سقف مظلة أميركية ـ إقليمية، وجاء سعد الحريري ليقدم نموذجاً لا يمت بصلة إلى نموذج والده، لا سيما في ظل تراجع الحضورين السوري والسعودي لبنانياً. طبعاً، يطيح بكل هذا الكلام حقيقة أن حزب الله لا يخفي براغماتيته في التعامل الإيجابي مع سعد الحريري، قبل الإستقالة الأخيرة وبعدها، وفي المقابل، حرص زعيم تيار المستقبل على رد التحية بالمثل، بدليل خطابه الأخير في بيت الوسط.
هل يمكن أن تصل الخفة بفريق سياسي محلي أو خارجي إلى حد إشهار “ورقة محروقة سلفاً”؟
“بهاء ليس خياراً جدياً بذاته. الأصل هو التوظيف وتمرير الرسائل، لكن الرجل لا يعوّل عليه”، بحسب أحد المهتمين برصد هذه الظاهرة. النيّة من تسويق إسمه “مجرد حرتقة” على سعد في عزّ ضعفه داخل بيئته السنية، “لا أكثر ولا أقل”. وهذا ما يتّفق عليه أيضاً حلفاء السعوديّة وخصومها، باعتبار بهاء مادّة دسمة للتشهير بسعد ومناكفته من داخل بيته العائلي.
وما تجمع عليه هذه الجهة أو تلك، أن بهاء ضعيف وورقة محروقة سبق أن استخدمها المسؤول السعودي ثامر السبهان في خريف العام 2017 حينما أجبرت السعوديّة رئيس حكومة لبنان سعد الحريري على الاستقالة ووضعته في الإقامة الجبريّة، ليحلّ مكانه بهاء. وقتذاك، كان بهاء في المملكة ينتظر حضور آل الحريري لمبايعته، ولكن وقوف العائلة، ولا سيما بهية الحريري، وبعض صقور “المستقبل” في مواجهة هذا الخيار، أحبطه في مهده، وهو الأمر الذي صدم الرجل الذي بدا كطفل يدبدب على الأرض قبل أن يتعلم المشي. المفارقة أن بهية الحريري التي توّلت تربية بهاء، كما شقيقه سعد، بعد سفر والدهما للعمل في السعودية، وظلا في عهدتها حتى العام 1982، وكانت تعاملهما مثل أولادها، كانت حاسمة برفض السفر إلى الرياض، الأمر الذي وأد خطة جرى لاحقاً تحميل نادر الحريري مسؤولية فشلها.
بالنّسبة لعارفي بهاء، فإنّ بيانه الأخير لا “يُقرّش” سياسياً، إذ أنّ لا علاقات سياسيّة حقيقيّة تربطه بدوائر القرار السعودي أو الأميركي، برغم أنه أسّس منذ سنوات مركزاً بحثياً في واشنطن بهدف توثيق علاقاته مع البيت الأبيض
يعتقد أحد القياديين في تيار المستقبل أن السعوديين والإماراتيين فاجأوا بهاء الحريري بإختياره “بديلاً” لشقيقه سعد في العام 2017، ليتبين لاحقاً أن “فرقة لبنانية” متعددة الحسابات، وأحد أبرز رموزها رضوان السيد وأشرف ريفي وفارس سعيد وبعض الإعلاميين، كانت وراء تزكية إسم بهاء في الرياض، وما يحصل اليوم أن بهاء يُقدّم أوراق اعتماده للسعوديين والإماراتيين، بتحريض من بعض المنتفعين الذين يسعون لاستغلاله لأسباب سياسيّة وماديّة، وهو مادة جاهزة للإستثمار.
بالنّسبة لعارفي بهاء، فإنّ بيانه الأخير لا “يُقرّش” سياسياً، إذ أنّ لا علاقات سياسيّة حقيقيّة تربطه بدوائر القرار السعودي أو الأميركي، برغم أنه أسّس منذ سنوات مركزاً بحثياً في واشنطن بهدف توثيق علاقاته مع البيت الأبيض.
كلّ ما يُحرّك بهاء، برأيهم، هو غيرته من شقيقه الأصغر منذ أن إرتدى في شباط/فبراير العام 2005 عباءة والده، ولكن حصاد الحقل لم يُطابق حساب البيدر.
طار بهاء.. حطّ سعد
عودة إلى الوراء قليلاً. بعد اغتيال رفيق الحريري وتفوه بهاء بجملته الشهيرة في مسيرة التشييع: “يا قوم”.. ظنّ كثيرون أنّ “وليّ العهد” سيكون حكماً الإبن الأكبر للرئيس الشهيد. هو الذي كان يظهر في الإعلام يستقبل المعزّين ويوزّع تصريحاته على وسائل الإعلام. كان مطلبه حينها: إجراء الانتخابات النيابيّة.
هكذا ظلّ “الشيخ بهاء” وريث الحريري الأب طوال فترة مكوث آل الحريري في السعوديّة، حيث تقبّلوا التّعازي، حتّى ظهر سعد الحريري في قصر الإليزيه مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك. وبعد يومين، وتحديداً في 21 نيسان/أبريل 2005، اجتمعت العائلة مع الملك السعودي.. وكانت النتيجة: طار بهاء وحطّ سعد “وليّاً للدم”.
كثيرون يؤكّدون أنّ للملك عبدالله وجاك شيراك اليد الطولى في تزكية سعد سياسياً، خصوصاً أنّ بهاء كان قد أعطى انطباعات سيئّة لدوائر القرار السعوديّة في مرحلة إدارة أعمال “سعودي أوجيه” في المملكة. بهاء، بحسب عارفيه، شديد الانفعال والغرور وقليل الصبر والتحمل. وهذا أدى إلى توتّر العلاقة مع عدد من رجال الأعمال السعوديين، ما اضطر والده إلى تسليم ملف “سعودي أوجيه” إلى سعد وإبعاد بهاء إلى سويسرا حيث بدأ أعماله الناجحة هناك في البورصة والأسهم.
أمّا نازك، فلم يكن لديها خيار إلا أن تبارك سعد، فالعلاقة الشخصيّة بينها وبين وبهاء “سيئةً”. في المقابل، ثمة علاقة تقدير وإحترام بين سعد ونازك التي تكن له كل محبة وتعامله مثل أولادها من زواجها الأول ومن رفيق الحريري
بهاء.. وزوجة أبيه
ولكن لم تكن التزكية السعودية ـ الفرنسية السياسية لسعد لتكتمل لولا “مؤازرة عائلية”، وتحديداً من بهيّة ونازك الحريري اللتين عمدتا إلى تزكية سعد على حساب بهاء. الأسباب كثيرة بالنسبة لبهيّة التي تعتبر نفسها “الأم الثانية” لبهاء وسعد و”خبيرة” بالشقيقين، من دون إغفال البعد الشخصي، إذ أن سعد كان مقرباً جداً من نجليْها نادر وأحمد. وبالتالي، وجدت “الست” أنّ وصول سعد إلى الحكم يعني حكماً اقتراب نادر وأحمد من السّلطة.. وهذا ما حصل فعلاً.
أمّا نازك، فلم يكن لديها خيار إلا أن تبارك سعد، فالعلاقة الشخصيّة بينها وبين وبهاء “سيئةً”. في المقابل، ثمة علاقة تقدير وإحترام بين سعد ونازك التي تكن له كل محبة وتعامله مثل أولادها من زواجها الأول ومن رفيق الحريري. يروي مقرّبون من الحريري الأب أنّهم كانوا شهود عيان على أكثر من توتر وتلاسن بين نازك وبهاء داخل قصر قريطم. ويشير هؤلاء إلى أنّ زواج رفيق من نازك أثّر كثيراً في شخصيّة بهاء الذي كان مراهقاً آنذاك، ونمّى لديه شعور الغيرة والحقد تجاه زوجة أبيه، علما أن والدته العراقية نضال بستاني، تكن وداً ومحبةً كبيرين لسعد، إذ أنه لم يهملها أبداً بل كان يهتم بمعظم أمورها.
ولذلك، يؤكّد عارفو الحريري الأب أنّه اختار إبعاد بهاء إلى سويسرا لأنّه لم يكن مرتاحاً لوجود إبنه البكر في كل أعماله في بيروت والرياض. هكذا كبر بهاء الذي يصفه عارفوه بأنّه “شخصيّة انطوائيّة وغير مستقرّة نفسياً”، وأكبر دليل على ذلك هو تعدّد علاقاته النسائيّة وزيجاته المتعدّدة. وأكثر من ذلك، يروي أحد المقرّبين منه أنّه عندما ترك زوجته الثانية (من طرابلس) قطع علاقته مع أطفاله الذين لم يتواصل معهم منذ سنوات!
بهاء وسعد.. علاقة مقطوعة
كلّ ذلك يبرّر ما آلت إليه العلاقة بين الشقيقيْن اللذين لا يتواصلان لا بالمباشر ولا عبر الهاتف، إذ يؤكّد مقرّبون أنّ بهاء لا يتّصل بشقيقه منذ سنوات. أوّل تصادم حصل بين الإثنيْن كان على خلفيّة ترشيح سعد لجمال عيتاني إلى رئاسة بلديّة بيروت، بعد أن كان بهاء قد اتّهم الأخير بعمليّات اختلاس من شركته في الأردن. فأتى ردّ بهاء بدعم أشرف ريفي في معركة الانتخابات البلديّة في العام 2016، في مواجهة تيار المستقبل في طرابلس، حيث كانت الغلبة للمدير العام السابق لقوى الأمن في مواجهة كل رموز 8 و14 آذار/مارس في طرابلس.
طفولة بهاء في مدينة صيدا المحافظة، وإنتقاله منها إلى مجتمع السعودية المغلق، غلّب على شخصيته الطابع المحافظ. إنتقل للعلم والعمل في الولايات المتحدة وأوروبا، فأصيب بصدمة المجتمع المنفتح
وما زاد الطين بلّة، حدوث مشاكل ماليّة بين الرّجلين إثر بيع بهاء حصّته في الكثير من الشركات التي ورثها عن والده إلى شقيقه سعد، ليبني امبراطوريّته الماليّة في العقارات والبورصة بعد أن خرج باكراً من “سعودي أوجيه” في العام 2008، علما أن أعمال بهاء في بيروت، تسببت له بوجع رأس مع العديد من المصارف، كونه وفر قروضا لمشاريع عقارية فاشلة، أبرزها مشروع فردان وكذلك مشروع “أ ب ث” فردان الذي دخله شريكاً مع آل فاضل، قبل أن ينسحبوا تدريجيا لترك بهاء يسدد قروضه للمصارف!
اليوم، يستقرّ بهاء في موناكو ويُعرف بأنّه الأكثر ثراء في عائلة الحريري والأكثر نجاحاً في إدارة المال. ولكنّ يشير عارفوه إلى أنّ شخصيّته المتقلّبة تنفّر العاملين معه، إذ أنّ بعض هؤلاء قطعوا علاقتهم به لا بل أقاموا دعاوىً قضائيّة ضدّه.. أوضح نموذج كان جميل بيرم الذي أصدر بهاء الحريري بياناً في العام 2010 بتكليفه و”تفويضه أوسع الصلاحيات لمخاطبة ومراسلة المؤسسات العامة والخاصة، المحلية والأجنبية، وكل الجمعيات والنوادي وهيئات المجتمع المدني”، قبل أن يختلفا منذ 5 سنوات.. على كل شيء، بما في ذلك تعويضات الرجل الذي لم يترك بهاء دقيقة واحدة، وحاول في فترة معينة مد جسور بينه وبين عدد من السياسيين، وأبرزهم وليد جنبلاط.
طفولة بهاء في مدينة صيدا المحافظة، وإنتقاله منها إلى مجتمع السعودية المغلق، غلّب على شخصيته الطابع المحافظ. إنتقل للعلم والعمل في الولايات المتحدة وأوروبا، فأصيب بصدمة المجتمع المنفتح. سرعان ما تغير وصار شخصاً ثانياً. الواضح أن بهاء يتكل في أعماله على فريق صاحب خبرة. أما في السياسة، فهو يعمل “على القطعة” ولا يخطط لأكثر من 48 ساعة.
المصدر موقع
للاطلاع على خبر اضغط هنا