يُستطاع في كلّ يوم، في كلّ لحظة، التحايل على القانون، والقفز فوقه، وتأويله، وتجييره، و”ركوبه”، بهدف استخدامه لغير الغايات المرجوّة منه.
يسمّون هذه الظاهرة، التي ليست بالطبع حكرًا على لبنان، ولا على البلدان ذات الأنظمة الاستبداديّة الصريحة، بأسماء مختلفة. أحيانًا يطلقون على الظاهرة هذه، أوصافًا وعباراتٍ ذات وقعٍ ترهيبيٍّ، معنويّ وواقعيّ، تتخطّى كلّ قياس. من مثل تدوير الزوايا لتقديم أولويّة المصلحة الوطنيّة العليا، والميثاقيّة، والعيش المشترك، والوحدة الوطنيّة، على صراحة هذا القانون، ووضوح موادّه.
تُرى، لو طُبِّق القانون اللبنانيّ، على رغم أنّه ينطوي على ثُغَر كثيرة، لو طُبِّق في شتّى المجالات، وعلى كلّ المستويات، هل كنّا لنصل إلى ما نحن فيه؟
أجزم أنْ لا.
لكنّ المسألة ليست مسألة قانون فحسب. بل مسألة معايير. ومفاهيم. وقيم. و… أخلاق.
هنا في لبنان، لا يُنتهَك القانون، فقط، من خلال الثُغَر الكامنة في بعض بنوده، ولا من خلال الاجتهادات التي يتولّى تظبيطها وتفنيدها أساتذة وجهابذة، ولا فقط من خلال التأويلات، والتفسيرات، بل خصوصًا من خلال التمريغ العلنيّ الصريح والمباشر.
أيّ قانونٍ “قانونيّ”، يسمح بأنْ يكون وضع الكهرباء في لبنان على ما هو عليه، وبأنْ يُستمَرّ على هذا الوضع، وبأنْ تنال حكومةٌ كهذه الحكومة ثقة “سيّد نفسه” على أساس خطّة الكهرباء التي كلّفت لبنان خساراتٍ مدوّيةً تصل إلى نحو خمسين مليار دولار، دينًا عامًّا.
أهي مسألة قانون؟ أم مسألة فساد المعايير والمفاهيم والقيم والأخلاق، من طريق استخدام القانون، لتمريغ ما لا يُمَرَّغ في الوحول والمستنقعات والمجارير؟
أيّ قضاءٍ يسمح بمثل هذه “الخيانة الوطنيّة العظمى”؟
سمّيتُ الكهرباء كمثلٍ ليس إلّا.
يجب أنْ أسمّي المجزرة التي تتعرّض لها الحقوق الأساسيّة المطلقة: الحقّ في تظهير الحقيقة، كلّ الحقيقة، وفي كلّ مجال، الحقّ في التعبير، الحقّ في إبداء الرأي، الحقّ في الاختلاف، الحقّ في الاعتراض، الحقّ في النقد، الحقّ في الفضح، الحقّ في التعرية، والحقّ في رغيف الخبز. إلى آخره.
يجب أنْ أسمّي مسألة تحرير القضاء والسلطة القضائيّة تحريرًا مطلقًا ونهائيًّا من براثن السلطتَين التشريعيّة والتنفيذيّة، ومن أنيابهما.
يجب أنْ أسمّي مسألة المال العامّ، المنهوب، قبل المهرَّب.
يجب أنْ أسمّي مسألة الودائع، مسألة الرواتب غير المدفوعة، مسألة المطرودين من أعمالهم، مسألة العاطلين عن العمل، مسألة المشرّدين في الشوارع، مسألة الذين لا سقف يؤويهم، ولا ضمان يحمي حياتهم، ولا دولة ترعاهم وتحتضنهم في أيّام العزّ كما في أيّام الشدّة.
يجب أنْ أسمّي مسألة الكرامات الشخصيّة والفرديّة للمواطن الإنسان الفرد.
ترى، أيجب أنْ لا أسمّي الكتلة الصخريّة في منطقة نهر الكلب، التي تنتمي إلى ما هو أعظم من كلّ قانون، أي الذاكرة الجمعيّة، والوجدان الجمعيّ للوطن وللمواطنين؟!
هذه المصلحة الوطنيّة العليا، هذه الميثاقيّة، هذا العيش المشترك، هذه الوحدة الوطنيّة، في أيّ مصرفٍ “دستوريٍّ” و”قانونيٍّ” أصرّفها، إذا كانت تستبيح الوطن والمواطن، وتُمكّن رئيس عصابة من أنْ يدعس على رقبة القانون، وتجعل الجمهوريّة اللبنانيّة دولةً فاشلةً، ومسخرةً بين الدول؟!
هذا الحكم، هذا النظام، هذه الطبقة السياسيّة هي طبقة رؤساء العصابات الذين يديرون لبنان.
لو لم يكن هؤلاء محميّين بالقانون، واجتهاداته، وتفسيراته، أكانوا ليتجاسروا على “ركوب” هذا القانون للوصول بنا وبالبلاد إلى هذه المواصيل؟!
كلامٌ أخير: أيّها الناس، المسألة ليست مسألة قانون فحسب. إنّها مسألة فسادٍ في المعايير والمفاهيم والقيم والأخلاق.
بل مسألة “ركوبٍ” للقانون.
أيّها الناس، أوقِفوا “ركوب” القانون، ولو كلّفكم ذلك التمرّد والثورة على سجّاني “السجن اللبنانيّ العظيم”!
Akl.awit@annahar.com.lb