قبلَ نحو عشر سنوات، كنتُ، كعادتي في بعض الأيام المُشمسة، أبحث عن كتابٍ لطيفٍ أقرأه كي ابتعد قليلا عن هموم السياسة ومشاغل الصحافة. في مثل هذه الحالات، غالبا ما اختار رواية، أو كتابَ شعرٍ أو نوادر. هذه المرة، وقعت عيني على كتيّب أنيق الغلاف، بعنوان:” بلا حقائب”، وعلى غلافه الأخير صورة لسيدة جميلة تُشبه الممثلة العالمية بروك شيلدز مع خصوصية جمالية مشرقية، مكتوب تحت الصورة، التعريف التالي ” إعلامية ومرهفة الحس تجاه الشعر”. قلتُ لا شك أنها إحدى المتطفلات على الشعر، لكن لا بأس فالعنوان جميل، والكتاب أنيق، والوجه حسن، وانا لا رغبة لي بقراءة ما هو معقّد أو مُقعّر.
بما أن القصيدة الأكثر تأثيرا أو جمالا او التصاقا بقلب ووجدان الشاعر، تؤخذ، في الغالب، عنوانا لكتابه أو ديوانه، فتحتُ الكتيّب على قصيدة ” بلا حقائب” فقرأتُ التالي:” آتيكَ بلا حقائب/ وجوازات خيالْ/ زيارة الذاتِ للذاتِ/ لا توجبُ ارتحالْ” وتختمها بالقول:” يا حُبّاً من دون حبيب/ حبٌ من نفسِه يقتات”. أعجبني الأمر.
قرأتُ الكُتيّب بأقل من نصف ساعة، لكني عدتُ الى بعض القصائد أكثر من مرة. فبين الكلمات، انعتاقٌ من واقع يبدو صعبا، وبينها حزنٌ دفين يبحث عن إجابات في هذا الوجود، وبينها تمرُّد مقموع وتوقٌ لأجنحة، وبينها توحُّدُ ال ” أنا” بال :”أنت” على طريقة شيوخ الصوفية. ألم يقل الحلاّج:”
” أنا من أهوى ومن أهوى أنا / نحن روحان حللنا بدنا/ فإذا أبصرتني أبصرته /وإذا أبصرته أبصرتنا”.
افرحني ما قرأت، ولعلّه أثار عندي حشرية المعرفة أكثر. أعرف أن “آل ابي حمزة”، هم من العائلات العريقة في جبل لبنان، وهم كمعظم العائلات العربية جاؤوا من شبه الجزيرة العربية الى بلاد الشام، واستقرّوا في تاريخ لبنان وحاضره. ومن خلال القصائد السلسة والعميقة والمتحرّرة من البُنى التقليدية للشعر العامودي، أدركت أن الكاتبة تنتمي اذا الى طائفة الموحدين، ذلك أنها في قصيدتها المُعنونة ب :”طائرة ورق”، نزوعا، ربما غير مقصود، للسير على درب أجدادها وجذورها في اعتبار جسد الانسان الكثيف قميصا يتغيّر ويبلى، بينما الروح-اللطيفة تنتقل من جسد الى جسد وتبقى بانتظار يوم القيامة وحكم الله عليها.
تقول الشاعرة:” وما الأجساد الا نفحاتٌ من دُخان/تلوّنُ اللطيفَ/ ليُدركَ ذاتَه كلُّ حيران/ فلا يغرّنكَ الثوبُ/ أو ظواهرُ الأشياء/ في رحلةِ الحقٍّ/ الأرواحُ تُبدّلُ ألف رداء”. ألم يتحدث الزعيم الوطني كمال جنبلاط عن ” اللطيف والكثيف والبسيط”؟ الم يبحث في سعيه الفلسفي والأخلاقي والديني والروحاني النبيل للجمع بين الأديان والمذاهب، وبين فلاسفة اليونان وحكماء الهند، عن وحدانية الوجود، والحق، وعن قميص زائل وروح متنقلة؟ هذا هو جوهر ما يسمّيه أهل التوحيد ب ” التقمّص” وما يعتقدون أن الأديان والحضارات الأخرى لامسته من قريب أو بعيد. بعضهم يُدلّل على ذلك بما ورد في القرآن الكريم:” “كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ” ( رغم نفي علماء مسلمين لهذا التفسير والقول بان الروح تنتقل فقط اثناء النوم)، ويبرّرونه أيضا بما جاء في الانجيل السمح من قيامة السيد المسيح بعد الموت، أو بما ورد في انجيل لوقا من قول :” إن يحيى المعمدان أتى بروح ايليا النبي” .
بعد فترة غير قصيرة على قراءتي هذا الكتّيب الشعري، عدتُ الى لبنان، فوجدت أن اسم ” منى أبو حمزة” مالئ الوطن وشاغل ناسه. فهي جاءت الى التلفزة بالصدفة، وإذا بها تتصدّر قائمة البرامج الأكثر مشاهدة. صار برنامج ” حديث البلد” المُقتبس عن برنامج أجنبي، حديث البلد بالفعل. نجح بالشكل والمضمون في اختصار الحياة الأسبوعية من سياسة وفكر وأدب وشعر ومعارض، بقالب سلسل وصورة جميلة وتقديم جميل يخلو من أي تكلّف. حصد معظم المشاهدين، وأثار غيرة الكثير من الزملاء الذين انطفأت أنوارهم بمجرد أن أضيء حديث البلد.
عرفتُ لاحقا ان منى أبو حمزة، هي بالأصل من عائلة ” أبي علوان” العربية العريقة، وإنها متزوجة من بهيج أبي حمزة وهو سلسل عائلة يُطلق عليها اجتماعيا، لا دينيا، لقب المشيخة.
شاءت الصدف أن أكون ضيف النجمة التي حصدت عشرات الجوائز محليا واقليما ودوليا، كان حديثا لطيفا على الهواء، ثم تعرّفتُ عن قرب عليها وعلى زوجها رجل الأعمال المُحترم والطيب والذي نجح في سويسرا قبل عودته الى لبنان. فاكتشفت سيدة مجتمع راقية، ولكن أيضا، وخصوصا، سلسلة المعشر، سريعة البديهة، صاحبة نكتة ذكية، بهية الطلّة والابتسامة. سألتها في أحد اللقاءات:” لماذا توقفتِ عن الكتابة؟” قالت:” كتبت هذا الديوان الصغير في مرحلة صعبة من حياتي، أو قل في فترة التساؤلات عن معنى الحياة وجوهر الوجود”… تمنيتُ عليها ان تعود الى الكتابة حين تستطيع، فالشاشة التي أحبّتها وأفسحت لها المجال لشهرة واسعة، تبقى عابرة ووهمية، أما النص، فهو الباقي السرمدي. الشاشة كثيفة، والنص لطيف. هي تتبدل وتتغير كقميص زائر، وهو يبقى كروح صاحبه.
المقال منشور أيضا على موقع “خمس نجوم”
https://www.5njoum.com/news/mna-abw-hmzh-bla-hqaeb
ا