*
رغم طغيان الملفات المالية والإقتصادية على إهتمامات وهموم اللبنانيين، يعرف كل متابع أن جوهر القضية اللبنانية، كان ولا يزال بقيام الدولة، وشكلها وهويتها، فالإنهيار هو ثمرة غياب الدولة ، رغم وجودها الشكلي، لأن سلطة المحاصصة الطائفية لم تبن دولة، فالدولة انتظام عامة ومعايير موحدة ونصوص نافذة ودستور يشتغل، وكل لبناني يعلم أن في لبنان كل شيئ عكس السير، فاسحقاقاتنا الدستورية عقد مستعصية لا تحلها إلا التسويات، والتسويات محاصصة، وإنتخاباتنا مواسم قابلة للتعطيل والتمديد إلا إذا أنقذتها، كما تعطلها تسوية، وقوانين الانتخابات تكون تسويات ومحاصصات أو لا تكون، والتعيينات في المناصب الوظيفية، في النص الأولوية للكفاءة، وفي التطبيق المعيار هو المحاصصة وفي قلبها الولاء للزعامات، ومكافحة الفساد نصوص معلقة حتى تنبذ الطائفة فاسد من بين صفوفها فتجيز لسلطة المحاصصة الإقتصاص منه، أو جعله كبش فداء.
بالمقابل لا إنقاذ إقتصادي ومالي دون أن تكون لنا دولة، دولة تنتظم فيها الصلاحيات والأدوار بين المواقع والمؤسسات، وفقا للنصوص لا لموازين القوى بين الطوائف والأحزاب أو بين رعاية الخارج وقوة الداخل، لا إنقاذ إقتصادي قبل أن يكف الرقم عن أن يكون وجهة نظر، ولا إنقاذ مالي قبل أن يكون لنا نظام ضريبي منصف وعادل لا يتهرب من أحكامه وموجباته المحظيون بمظلة وحماية سلطة المحاصصة ، وقبل أن يكون لدينا نظام مصرفي يخدم الاقتصاد بدلا من أن يخدم تمويل نظام المحاصصة على حساب البلد والإقتصاد معا ، ولا إنقاذ مالي وإقتصادي قبل أن تصبح نفقات الدولة مبنية على حساب المصلحة العليا للمواطنين ، لا بحسابات تبادل المنافع وتقاسم المغانم، وما بينهما من رعاية للفساد والمحسوبية.
معضلة بناء الدولة في لبنان لبنانية بالأساس، ومصدرها عجز اللبنانيين عن رؤية مصلحتهم الوطنية فوق حسابات القلق الوجودي للطوائف، الذي يتحول إلى مصدر خوف وتخويف لتقديم نظام المحاصصة كأشد البدائل أمانا للبنانيين، بهوياتهم الطائفية التي تتضخم وتتغول على حساب الهوية الوطنية.
كانت معضلة الدولة في الماضي بتوازن سلبي مريض ، بين دعوة للحماية من الغرب ودعوة للوحدة مع الشرق، وقامت على هذه الثنائية مقايضة تسببت بلبنان المريض، ولما تلاشت وإقتنع اللبنانيون جميعا بنهائية كيانهم الوطني، عندما إقتنع المسيحيون أن مصالح الغرب أكبر من قلق تأمين الحماية لهم، وإقتنع المسلمون أن زمن الرومانسيات القومية قد تجاوزته وقائع الحاجة لأوطان مستقرة، أورثتنا عقولنا المترددة والقلقة، ثنائية بديلة، لا للعملنة الشاملة يفرح بها المسلمون ويبيعهم إياها المسيحيون، مقابل لا مشابهة للتعداد الطائفي يمن بها المسلمون على المسيحيين فيفرحون، وتنشأ في ظلال هذه الثنائية، المحاصصة القاتلة ويموت الوطن وتضمحل الدولة في ظلالها، ويصير الوطن أوطانا لكل منها علم ونشيد وإذاعة وتلفزيون وصحيفة وسياسة خارجية وسياسة دفاعية وموارد مالية، وتصير الدولة دولا لها نظمها وقوانينها غير المعلنة والغالبة لمصالح الدولة الجامعة.
يعرف اللبنانيون في وجدانهم أن الدولة المدنية وحدها خلاصهم، لكنهم يهابونها ، فيخاف المسلمون أو يتم تخويفهم ، من مساسها بمعتقدهم الديني بتحولها إلى علمنة شاملة ، ويخاف المسيحيون أو يتم تخويفهم ، من طغيان العدد فيها، والطغيان العددي بات للمسلمين وسيزداد.
حقيقتان تحضران في واقع لبنان اليوم، الأولى أن المسيحيين الذين يعتبرون أنفسهم بحق، وفي المقدمة قياداتهم الروحية حراس الكيان اللبناني، ليس بمقدورهم وقف التراجع العددي، وعليهم الثقة التي يؤكدها التاريخ، بأن مكانتهم ودورهم حاجة لبنانية وضرورة لبنانية بمعزل عن العدد، في الثقافة والإقتصاد والحضور الخارجي والإنتشار والتعبير عن التنوع، وأن يقتنعوا بأن الدولة المدنية التي لا تتحول إلى مصدر تهديد لحرية المعتقدات الدينية، هي مطلبهم، وبأنهم ما لم يبادروا إلى الدعوة لها فلن تكون، لأنهم المؤتمنون على مستقبل الكيان، ولأنهم الأقل عددا، وتبنيها من أغلبية عديدة يرميها بشبهة التخفي للتسلط العددي على أساس طائفي للمسلمين، أما الحقيقة الثانية فهي أن الخطر الداهم والوجودي على لبنان اليوم هو خطر التوطين، سواء توطين النازحين السوريين، كما تقول بعض المشاريع الخارجية، أو توطين اللاجئين الفلسطينيين خصوصا مع إنسداد الافاق أمام فرص لحل قضيتهم بما يضمن لهم حق العودة، وما يعنيه التوطين من خلل ديمغرافي خطير، ضمن صيغة طائفية للدولة، يغري بتعديل صيغ التقاسم الطائفية، يفوق كمصدر للخطر الوجودي، أي خوف أو قلق من التفوق العددي للمسلمين في دولة مدنية يتمسك مواطنوها بالإجماع على رفض التوطين.
النداء الملح للقيادات المسيحية الزمنية والروحية للتفكير عميقا بالتحديات الوجودية للكيان اللبناني، والتفكير بهدوء بالحاجة لإجماع شجاع وواقعي يتقدمون عبره للبنانيين جميعا، وخصوصا للشريك المسلم، بالدعوة لقيام الدولة المدنية، ليبقى لنا لبنان، وتكون لنا فيه دولة، يحكمها الدستور والقانون، والمؤسسات، فنستطيع أن نأتمنها على أزماتنا الاقتصادية والمالية، وأن نثق بقدرة أبنائنا وأحفادنا على العيش الآمن في ظلها.
نائب في مجلس النواب*