لم يكن يخطر في بال الأطفال الخمسة عشر، أن الشعارات التي كتبوها على حيطان مدرستهم، في مدينة درعا السورية، والتي نادت بالحرية وطالبت بإسقاط النظام، سوف تكون لها ارتدادات عظيمة على الشعب السوري، وأنها ستكون شرارة اندلاع الثورة، بخاصة بعدما اعتقلوا وتمّ تعذيبهم بأساليب وحشية من قبل الأمن، وكان ذلك في 26 فبراير (شباط) 2011.
درعا التي تقع في الجنوب الغربي من سوريا، والتي أصبحت “مهد الثورة”، قام أهلها في 18 مارس (آذار) 2011 بالتظاهر في ساحة الجامع العمري، مطالبين بإطلاق سراح أطفالهم المعتقلين وبعض المطالب الإصلاحية. تلك التظاهرة أطلق عليها حينها “جمعة الكرامة”، والتي كانت أولى التظاهرات، قضى فيها شخصان، هما محمود الجوابرة وحسام عياش. تطورت الأزمة وانتشرت التظاهرات في مختلف المدن السورية، وما كان من أحد ضباط النظام إلا أن أطلق النار على المتظاهرين بشكل عشوائي في مدينة الصنمين في محافظة درعا، حيث قضى أكثر من 20 شخصاً، وأصيب حوالى 40.
هذا الخبر أثار ثائرة الناس ودفعهم إلى إسقاط تمثال للرئيس الراحل حافظ الأسد وتحطيمه، وتمزيق صورة الرئيس الحالي بشار الأسد، في ساحة التحرير في مدينة درعا، في مشهدية صادمة، أعيد بثها مراراً على شاشات التلفزة المحلية والعالمية، للدلالة على كسر حاجز الخوف لدى السوريين.
لكن مواجهة النظام للمتظاهرين السلميين بالرصاص الحي، وسقوط مئات القتلى والجرحى، إضافة إلى عدم تجاوبه مع مطالبهم، دفع بالمئات من الشباب والجنود المنشقّين إلى حمل السلاح بوجهه، ليبدأ فصل جديد من قصة الثورة السورية.
نزوح ولجوء
الثورة السورية، وعلى عتبة دخولها عامها العاشر، أين أصبح السوريون منها؟ وما هو حجم الدمار الذي لحق بالمدن السورية؟ وهل التهجير القسري أدى إلى تغيير ديموغرافي؟
تقول الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في أحدث إحصاءات لها، إن حجم الخسائر البشرية من المدنيين بلغ منذ انطلاق الثورة السورية في مارس 2011 وحتى اليوم الأول من مارس 2020، 226247 مدنياً، 28316 منهم من النساء، و29257 طفلاً دون سن الثامنة عشرة، وقد قتل 14391 شخصاً بسبب التعذيب، في حين لا يزال 146825 شخصاً قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري، و98279 لا يزالون قيد الاختفاء القسري.
كما وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان، منذ 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، وحتى يوم الأول من مارس 2020، تنفيذ طائرات نظام الأسد الحربية والمروحية، أكثر من 162400 ضربة جوية، وقصف الطائرات المروحية المناطق السورية بأكثر من 78505 براميل متفجرة، فيما نفذت الطائرات الحربية 83895 غارة على الأقل.
هذه الغارات والضربات الجوية على شعب أعزل، كانت من نتائجها معاناة إنسانية شاقة، أسفرت عن نزوح ملايين السوريين، في أكبر أزمة نزوح شهدها العالم.
تسجل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن واحداً من بين اثنين من الرجال والنساء والأطفال السوريين اضطر إلى النزوح قسراً منذ بداية النزاع في مارس 2011، ولأكثر من مرة واحدة في أغلب الأحيان. ويشكل السوريون اليوم أكبر تجمع من اللاجئين حول العالم. كما اضطر أكثر من 5.6 مليون شخص إلى الفرار من سوريا منذ عام 2011 بحثاً عن الأمان في لبنان والأردن والعراق ودول أخرى. فيما نزح ملايين الأشخاص الآخرين داخل سوريا. في مدينة الرقة وحدها، سجلت الإحصاءات انخفاضاً في عدد السكان من مليون نسمة عام 2011 إلى 150 ألفاً مع دخول قوات التحالف في فبراير 2017. كما أن هناك حوالى 13.1 مليون شخص محتاج، 6.6 مليون نازح داخلي، 2.98 مليون شخص في المناطق المحاصرة التي يصعب الوصول إليها.
وتحرص الدول الأوروبية على الإبقاء على المهاجرين السوريين في البلدان المجاورة لها. ويتجلى ذلك في الصفقة المبرمة بين تركيا والاتحاد الأوروبي التي وافقت فيها تركيا على استعادة طالبي اللجوء الذين جرى ترحيلهم من اليونان مقابل ستة مليارات دولار من المعونات. إذ تستضيف تركيا أكبر عدد من اللاجئين السوريين المسجلين والذين يصل عددهم إلى 3.3 مليون شخص. أما في لبنان، فيعيش حوالى 70 في المئة من اللاجئين تحت خط الفقر، حيث لا توجد مخيمات رسمية، ونتيجة لذلك، يعيش أكثر من مليون سوري مسجل في أكثر من 2100 مجمع وموقع في أنحاء البلاد كافة.
وتستمر عمليات العودة الذاتية للنازحين داخلياً واللاجئين من البلدان المجاورة إلى المناطق المستقرة، والتي يمكن الوصول إليها. بين يناير (كانون الثاني) 2016 وسبتمبر (أيلول) 2019، عاد أكثر من 209 آلاف لاجئ طوعياً من مصر والعراق والأردن ولبنان وتركيا.
في أحدث إحصاءاتها حول أوضاع اللاجئين السوريين في العالم، أشارت مفوضية شؤون اللاجئين إلى أن 75.2 في المئة من اللاجئين السوريين يأملون في العودة إلى بلدهم ذات يوم. لكن 69.3 في المئة من هؤلاء لا يعتزمون العودة خلال مهلة سنة من الآن.
وتتراوح أسباب عدم العودة بين الخشية من فقدان الأمن والأمان واحتمالات التعرض لأخطار مختلفة مثل الاعتقال أو التنكيل أو إجبارهم على أداء الخدمة العسكرية، وتتمحور الأسباب الأخرى حول تأمين سكن وعمل ومصدر للعيش.
تغيير ديموغرافي
نزوح ولجوء الشعب السوري كان له انعكاسات عديدة وخطيرة، أهمها التغيير الديموغرافي وتبدل التركيبة السكانية في بعض المدن والمناطق.
يقول المعارض والناشط السوري ثائر الشيخ علي من بلدة عسال الورد الحدودية، لـ “اندبندنت عربية”، إن “الإيرانيين بدأوا منذ ما قبل الثورة بالسيطرة وشراء العقارات في المناطق ذات الطابع الشيعي في دمشق، وعلى رأسها منطقة السيدة زينب ومنطقة دمشق القديمة، وبالأخص منطقة مقام السيدة رقية بجانب الجامع الأموي. وكانت غالبية السوريين تلاحظ ذلك من قبل الثورة، إلى أن تمكنوا من السيطرة الكاملة خلال الثورة على هذه المناطق”. ويرى أن نفوذ إيران و”حزب الله” اللبناني واضح جداً، من خلال سيطرتهما على مناطق كثيرة في سوريا، خصوصاً المناطق الحدودية في سلسلة جبال لبنان الغربية، باعتبارها الشريان الحيوي لنقل المخدرات والحشيش وأنواع الممنوعات كافة والاتجار بها. بالإضافة إلى سهولة وسرعة انتقال السلاح من لبنان إلى سوريا، وبخاصة إلى المنطقة الوسطى في قرى حمص.
أما عن كيفية إدخال المخدرات إلى الداخل السوري، فيقول الشيخ علي، “إن للإيرانيين وعناصر حزب الله معاملة خاصة، حيث يتمتعون بخاصية المرور بخطوط عسكرية، وغير مسموح تفتيشهم أو مضايقتهم نهائياً”.
ويرى الشيخ علي أن النظام السوري وإيران و”حزب الله” لعبوا على وتر الطائفية والتغيير الديموغرافي في بعض المناطق في سوريا، لكن تعداد من هم من الطائفة السنية الكبير، جعل من المهمة صعبة التنفيذ. لكنه يضيف أن “موضوع التشيع، بدأ قبل الثورة”، حيث كانت هناك إغراءات مالية من قبل إيران، مستغلة فقر بعض الأسر في القرى النائية.
ويشرح تقرير للمؤسسة البحثية Atlantic Council عن إضفاء الطابع المؤسسي على التغيير الديموغرافي في سوريا، نشر بتاريخ 4 أبريل (نيسان) 2019، أنه “قبل عام 2011، كان عدد سكان سوريا يقدر بنحو 21 مليون شخص. ولكن بعد ثماني سنوات من الصراع، فرّ خمسة ملايين من البلاد، وأكثر من ستة ملايين من النازحين داخلياً بين محافظة إدلب وشمال سوريا. هذا النزوح ليس مجرد نتيجة للحرب، بل هو هدف محدد للنظام وإستراتيجية حلفائه، من أجل استعادة السيطرة على البلاد. نفذ النظام نزوحاً قسرياً واسع النطاق، في حمص ودمشق وحلب والريف القريب لإحداث تغيير سكاني. كما قام بمكافأة الموالين له بإعطائهم بيوتاً في دمشق، وعاقب شخصيات وجماعات معارضة بإجلائها قسراً من منازلها إلى الجانب الآخر من البلاد. هذا التكتيك جزء لا يتجزأ من النظام من أجل تعزيز السيطرة على سوريا بعد انتهاء الحرب”.
يتابع التقرير، “في أبريل 2017، تم التوصل إلى اتفاق رئيس بشأن أربع مدن متنازع عليها منذ زمن طويل وهي الزبداني ومضايا وكفريا والفوعة. أنجز هذا الاتفاق بالفعل عام 2015، لكنه لم ينفذ حتى 2017، ووقع من قبل الجماعات المتطرفة، هيئة تحرير الشام وأحرار الشام من جهة، والنظام وحليفيه حزب الله وإيران من جهة أخرى. نص الاتفاق على أن الموقعين سيتبادلون الأسرى، وأن يكون هناك تبادل لسكان من مضايا والزبداني في ريف دمشق مقابل سكان من كفريا والفوعة في ريف إدلب. كانت إيران جزءاً أساسياً من اتفاقات المصالحة مع المعارضة، وسوف ترسل مفاوضيها للعمل مع المعارضة لضمان تمثيل مصالح النظام. على سبيل المثال، أدى اتفاق المدن الأربع إلى تقريب الموالين للنظام الشيعي بشكل أساسي من العاصمة، مما يعزز سيطرة النظام وإيران. وأجبر سكان المعارضة من الغوطة الشرقية في ريف دمشق على إخلاء مناطق والانتقال إلى إدلب بشكل أساسي. سعت إيران، من خلال الاضطلاع بدور في هذه الاتفاقيات، إلى ضمان نفوذها في سوريا بعد الحرب، وحماية مصالحها الإقليمية”.
شهادة
يقول أحمد، وهو ضابط انشق عن القوات الخاصة السورية إنه “رفض تلويث يديه بدماء بريئة، لأنها دماء أهل السنة حصراً الذين انتفضوا ضد هذا النظام الطاغي الظالم”.
يتابع أنه قبل إعلان انشقاقه كان يحضر الاجتماعات الأمنية، “وأسمع ما يحاك ضد كل من وقف بوجه النظام وأعوانه. طبعاً، الثورة كانت شعبية وسلمية وكلنا يعرف ذلك، وكنا نتحدث عن ظلم الفروع الأمنية لطوائف الشعب السوري كافة، لكن النظام كان يروج لموضوع الطائفية منذ اندلاع الثورة، وللأسف نجح بفضل أبواقه وإعلامه القوي”.
وعن مشاركة “حزب الله” اللبناني، التي أعلن عنها عام 2013، يقول إن الحزب دخل بداية العام 2012 على خط الثورة، “وجلب مرتزقته إلى مركز القوات الخاصة في الدريج وبعلم كل من خدم في تلك المنطقة، ومنها كان يتم توزيعه مع أفواج القوات الخاصة في درعا وإدلب بداية الأمر، وقد ساعده النظام بإخراج الإسلاميين المتشددين من السجون كي ينفذوا المهام الموكلة إليهم في أسلمة الثورة”.
وعن التغيير الديموغرافي الذي حصل على الأراضي السورية، يقول “بدأت روسيا بإتباع سياسة التهجير والتغيير الديموغرافي، بدءاً من الزبداني ووادي بردى وأحياء دمشق، واتبعوا سياسة الترحيل باتجاه مدينة إدلب، وتسليم البلدات المدمرة والمهجورة إلى إيران وحزب الله والميليشيات الأخرى، وقاموا بجلب عائلات شيعية من باكستان وغيرها للتوطين وإعطائهم الجنسية السورية. أنا شخصياً، دخلت لبنان لاجئاً وهارباً من الموت وتم اعتقالي من قبل استخبارات الجيش اللبناني بتهمة القتال ضد الجيش السوري والانشقاق عنه”.
وعن موقف الشعب السوري من استمرار الثورة، يقول “الثورة مستمرة، طالما هناك طفل قُتل أبوه وأمه أو أخوه على يد هذا النظام وميليشياته الشيعية اللبنانية والعراقية المتمثلة بلواء الفاطميين”.
كلفة الدمار
نشر معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب (UNITAR) إحصائية تفصيلية على شكل أطلس، في 18 مارس 2019، بيّن حجم الدمار الذي لحق بالمدن والمراكز العمرانية في سوريا.
واستند الأطلس إلى تحليل صور الأقمار الصناعية وعرض خرائط تبين توزع الدمار وكثافته في مناطق سورية عدة، شهدت أكبر نسبة دمار. وقد وصلت أعداد المباني المدمرة أو المتضررة في حلب وإدلب ودير الزور ودرعا والمناطق المحيطة بالعاصمة دمشق وغيرها إلى 125122 مبنى.
أما البنك الدولي فأصدر تقريراً بعنوان “خسائر الحرب، التبعات الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سوريا”، في يوليو (تموز) 2017، قدر فيه خسائر الحرب السورية بحوالى 226 مليار دولار، في حين قدرتها دراسة لمنظمة “الرؤية العالمية” بحوالى 689 مليار دولار، حتى نهاية عام 2016.
وتأخذ الخسائر الاقتصادية السنوية منحى تصاعدياً عاماً تلو الآخر. فقد قدّرت الخسائر التراكمية منذ بداية الحرب حتى نهاية 2015 بـ 259.6 مليار دولار، وتشمل 169.7 مليار دولار كخسائر في الناتج المحلي الإجمالي، و89.9 مليار دولار كخسائر في رأس المال، من دون احتساب خسائر القوات العسكرية والأمنية، وفق دراسة لـ “الإسكوا”.
وتعد مسألة إعادة الإعمار من التحديات الكبيرة التي يواجهها النظام، حيث قدرت كلفتها بنحو 400 مليار دولار.