أخبار محلية

كلمات هادئة في الشأن التربوي في لبنان

مقدمة شهدنا كثيراً من النقاشات على اثر نشر مقال في جريدة الأخبار بعنوان "طلاب لبنان «الطشّ» عالمياً!"، يشرح نتائج لبنان المتدنية في اختبار TIMSS العالمي للعام 2019، حيث جاءت نتائج الطلاب اللبنانيين (في الصف الثامن، أي الثالث متوسط) في اسفل لائحة الدول المشاركة، من بين 39 دولة مشاركة، وحتى في آخر لائحة الدول العربية المشاركة في مادة العلوم.

بقلم الدكتور ميلاد السبعلي

وقد تباينت التعليقات، بين من انتقد المنظومة التربوية اللبنانية، ومناهجها القديمة ومقارباتها التقليدية التلقينية في التعليم، وعدم تجهيز المعلمين بشكل معاصر، وبين من هاجم الاختبارات العالمية، وبرر للنتائج الضعيفة بأنها صممت على اساس المناهج الأميركية والبريطانية، التي تختلف عن المناهج الفرنسية التي يتبعها المنهاج اللبناني (مع أن انكلترا وأميركا لم تكن في طليعة الدول المشاركة، وفرنسا لم تكن في اسفل اللائحة).

وذهب بعض آخر الى التعبئة العاطفية، متحدثين عن البعد الوطني والإرادة الصلبة للبناني وكيف أن اللبنانيين مجلّين في كل المجالات وكل الدول. واستطرد البعض بأن تطوير المنظومة التعليمية يجب أن يكون تطويراً وطنياً بالكامل، دون الاكتراث لهذه الاختبارات الدولية المشبوهة، وأن تحديد الهوية القومية والوطنية، ووحدة الانتماء، هي اساس في تقدمنا. وشكك آخرون بكيفية انتقاء آلاف الطلبة اللبنانيين الذين شاركوا في الاختبار، وادعوا أن هذا الاختيار لا يمثل حقيقة الواقع، وان في لبنان طلاب واساتذة متميزين.

وكانت نتائج اختبار آخر، هو اختبار PISA 2018، قد صدرت في مطلع 2020، وأظهرت تأخر نتائج طلاب لبنان، في مواد الرياضيات والعلوم والقراءة، بحيث حل لبنان في المركز 73 من اصل 78 دولة مشاركة، للطلاب بعمر 15 سنة. وقتها، أتينا برئيس قسم التعليم في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الى لبنان، وناقشنا بالتفصيل معايير المنظومات التربوية المعاصرة وتطوير المناهج والمقاربات التعليمية، من أجل انتاج جيل جديد قادر على الابداع والابتكار والتميز في عالم اليوم والغد. فالدور الأساسي لمنظومة التربية، اضافة الى بناء مواطن صالح وايجابي، هو انتاج جيل يمتلك مهارات التفكير العالي وقدرات التعامل مع التطورات المتسارعة في سوق العمل والمجتمع، كي يستطيع المساهمة في نهضة مجتمعه وحركة البحث والتطوير العالمية، وضمنّا كل ذلك في خطة تطوير المناهج الجديدة في لبنان.

لا شك أن الغلو في الانتقاد او التأييد يخرج عن منطق التحليل المنطقي الهادئ. فلا إهمال هذه النتائج والتشكيك بكل المعايير الدولية الناشئة يفيد، ولا نسف كل ما هو قائم على قاعدة ضرورة التمثل بما يحدث في العالم ونقل التجارب الدولية كما هي يؤدي الى النتيجة المرجوة. فمن جهة، لا يمكن لأي دولة في العالم اليوم، أن تحيا بشكل منعزل عن العالم، ولبنان ليس استثناء. وتطوير المنظومة التربوية اللبنانية، هي حاجة وطنية بغض النظر عن نتائج الاختبارات الدولية. ولا يجوز التعامي عن الواقع المتهالك للمنظومة التربوية اللبنانية، التي بدأت تفقد وهجها في السنوات العشرين الأخيرة، لعدة اسباب ليس هنا مجال مناقشتها. ولا تفيد الشعارات الشعبوية التي تتغنى بالمجد الغابر، ولا بتميز لبنان في مطلع القرن العشرين عن غيره من الدول العربية في مجال التربية والتعليم، التي كان من أهم أسبابها وجود الارساليات الأجنبية ومدارسها وجامعاتها، والتي لم تخلو من مشاريع سياسية مرافقة. والقول أن هناك آلافاً من الطاقات اللبنانية المتميزة المنتشرة في كل أصقاع الأرض، هو قول صحيح، ولكنه لا يعني بالضرورة أن المنظومة الحالية ليست متهالكة وبحاجة لتغيير جذري. وتبسيط المشكلة الى حد القول أن مجرد تحديد الهوية بشكل صحيح، مع بعض الشعارات القومية التعبوية، هو مسار مبتسر، اعتمدته كل ايديولوجيات العالم، من خلال تبسيط المشاكل وارجاعها الى سبب واحد، مثل نظريات الصراع الطبقي او الصراع العرقي وغير ذلك. لا شك أن الاتفاق على هوية قومية واضحة هو ضروري ولكنه غير كافي من الناحية التربوية والتنموية، مع أنه من أكثر المسائل إشكالية في لبنان، حيث الطوائف والمذاهب المسيّسة وتعريفاتها المتناقضة للهوية والانتماء…

التربية في عصر المعرفة مقارنة مع عصر الصناعة

في عصر الصناعة، كان هناك حاجة كبيرة لأنواع عديدة من العمال، الذين يسمون في الغرب بالـ Blue Collars، والذين ليس بالضروري أن يكونوا متعلمين ومتميزين ومتفوقين وأصحاب مهارات وخبرات كبيرة ومعاصرة. بينما كان هناك حاجة لنسبة ضئيلة من الأشخاص المتعلمين والمتميزين، ليتولوا مراكز ادارية وقيادية في كافة القطاعات الانتاجية والخدماتية والحكومية. وكان يجب على هؤلاء أن يتقنوا نفس الاختصاصات بشكل متكرر، لخدمة مسارات الانتاج الصناعي الضخم لنفس المنتجات (Mass Production)، أو الجيوش البيروقراطية التي تدير المؤسسات الحكومية المتشابهة. لذلك كان تركيز المنظومة التربوية والتعليمية على انتاج أعداد كبيرة من الخريجين في اختصاصات قليلة، يعملون في مجالات متشابهة. وكان التركيز على الحفظ وتجميع المعارف، كون الخريج الذي سيعمل في سوق العمل او في الحكومة، عليه تدبير شؤونه بما يعرفه، في غياب مصادر متنوعة للمعرفة، وحصر مراجعه بما توفر من كتب ودوريات مطبوعة موجودة في مكان العمل.

مع التطورات التكنولوجية والاقتصادية التي حصلت آخر 20-30 سنة، والتي تضاهي بحجمها حجم كل الاكتشافات والتطورات التي حصلت منذ بدء الحضارة حتى نهاية القرن العشرين، والتي اعتمدت الى المعارف السابقة لإنتاج كم هائل من المعلومات والمعارف الجديدة، صار لزاماً على المنظومات التربوية والتعليمية انتاج أجيال جديدة، تمتلك مهارات معاصرة، تركز على التفكير العالي، بما في ذلك التفكير النقدي والابداعي وحل المشكلات والقيادة والريادة والتواصل، ومفاهيم معاصرة للمواطنة والمعرفة الرقمية، كي يستطيع التأقلم مع التقنيات الجديدة والذكاء الاصطناعي، ومع التغيرات الجذرية المتسارعة في سوق العمل والمجتمع. كما تفرعت الاختصاصات بشكل كبير، وقل التركيز على مهارات التذكر والحفظ والفهم والتطبيق البدائي، وهي مهارات أصبحت بديهية ويمكن أتمتتها واستبدالها بالتطبيقات التكنولوجية الذكية، مما يدفع الخريجين الذين يمتلكون هذه المهارات فقط الى البطالة.

وبالتالي، أصبح على المنظومات التربوية الحديثة، أن تزود جميع افراد الجيل الجديد، بهذه المهارات التي اصبحت مطلوبة من جميع العاملين، الذين يسمون اليوم عمال معرفة، ويجب ان تكون لديهم المهارات الجديدة المشار اليها أعلاه، مهما كان اختصاصهم، وليس فقط لنخب تشكل نسبة بسيطة من الطلاب. خاصة وأن خريجي اليوم والغد، سيضطرون لتغيير وظائفهم لأربع أو خمس مرات خلال حياتهم المهنية بحسب آخر الأبحاث الصادرة عن البنك الدولي، ومسألة الوظيفة الواحدة مدى الحياة أصبحت من الماضي. بالتالي عند الانتقال من مهنة الى أخرى، قد لا تكون المهارات التخصصية مفيدة، وما ينتقل مع العاملين هو هذه المهارات الحديثة التي تسمى بالانكليزية بالـ Transferrable Skills، أي المهارات القابلة للانتقال مع العامل من مهنة الى أخرى.

ونرى أن معظم المنظمومات التربوية في الدول النامية التي لم يتسنَ لها أن تتطور وتواكب هذه التغيرات، مثل المنظومة التربوية في لبنان، ما زالت تتميز بهذا النوع النخبوي غير الديمقراطي، حيث أن نسبة قليلة من الطلاب المتميزين تضاهي طلاب أهم الدول في العالم، لكن الأكثرية الباقية يبقى مستواها قاصراً. وهذا ما تعكسه هذه الاختبارات الدولية، التي تمتحن وجود المهارات الحديثة، وليس ما حفظه المتعلم من معلومات. فالمطلوب من المتعلم اليوم أن يعرف كيف يستخدم المعلومات التي يخزنها، أو يبحث عنها على الانترنت، بشكل فعال ومبتكر لحل مشكلات يواجهها للمرة الأولى في حياته. ففي اختبار PISA 2018، حيث حل لبنان في آخر المراتب، قبل كوسوفو وجمهورية الدومينيك والفيليبين، كان هناك 2% من الطلاب اللبنانيين في المراكز الأولى عالمياً، حيث تفوقوا على طلاب سنغفورة التي حلت أولى بين الدول. لكن 63% من مجموع الطلاب اللبنانيين حلّوا في اضعف 10% من طلاب العالم. فكان رد فعل المسؤولين التربويين في لبنان، هو تعظيم وتمجيد الطلاب المتفوقين، الذين اتوا من بضعة مدارس متميزة في لبنان، ليبررواً الفشل المدوي بوجود هذه القلة المتميزة. وهذا أيضاً ما نراه عند الذين يقولون أنه ما من جامعة في العالم او مركز بحثي او شركة كبرى، الا وفيها لبنانياً متميزاً. وبرغم ما في هذا الادعاء من تشاوف غير علمي، فلنفترض أنه صحيح، فهذا يعني وجود بضعة آلاف من الخريجين المتميزين، لنقل أن هناك 5,000 شركة كبرى في العالم، و20 الف جامعة، وأن في كل منها لبنانياً متميزاً أو اثنين. فهذا يجعل مجموعهم حوالي 25-50 الفاً كحد أقصى. لكن هناك مليون خريج هاجر من لبنان آخر 30 سنة. مما يعني أن هؤلاء المتميزين يشكلون 2.5 الى 5% من مجموع الخريجين المغتربين. وتصبح النسبة أقل اذا احتسبنا مجموع الخريجين الذين هاجروا قبل ذلك، أو عدد الخريجين الذين لم يهاجروا. بكل الاحوال هذه نسبة قريبة مما تظهره الاختبارات الدولية. فماذا عن البقية؟

المناهج والمقاربة

بناء على ما تقدم، ومع المقارنة مع مناهج الدول التي تتصدر الاختبارات الدولية، أو الدول المتطورة التي دخلت عصر المعرفة من ابوابه الواسعة، نرى أن تطوير المناهج والمقاربة التعليمية، بهدف تحويلها من التلقين والنخبوية، الى تعزيز المهارات الحديثة لأوسع شريحة ممكنة من طلابها، كان لها دور جوهري في نهضتها العلمية والاقتصادية. وهنا لا نتحدث بالضرورة عن الدول الصناعية او التكنولوجية الكبرى، بل حتى عن دول نامية صغيرة ومتوسطة تميزت من خلال تطوير منظومتها التربوية بشكل عام، ومناهجها ومقاربتها التعليمية بشكل خاص، مثل ايرلندا وسنغفورة وفيتنام وفنلندا وغيرها.

من هنا، لا بد من إجراء دراسات بحثية نقدية وتحليلية لهكذا نماذج، والاستفادة من التطورات العلمية العالمية في مجال التطوير التربوي، وانتاج إطار مرجعي معاصر لتطوير المناهج على هذه الأسس الجديدة، لكي تتحول المناهج الجديدة الى مناهج قائمة على الكفايات والمهارات، وعلى تخفيف مواد الحشو والحفظ عند الطالب، وبناء قدراته الابتكارية والابداعية. وهذا يجب أن يترافق مع تغيير جذري للمقاربات التعليمية وطرق التعليم والتدريس، والانتقال تدريجياً الى عملية تعليمية تتمحور حول الطالب، وتأخذ بعين الاعتبار التنوع والتفاوت في الامكانيات والسرعة وطرق التعلم عند الأفراد، والاستفادة من التقنيات الحديثة لتصميم انظمة تعليمية ذكية ومتكيفة ومرنة، تدمج التعلم الذاتي مع التدريس والتعلم من خلال العمل الجماعي والبحث العلمي. وهذا ما تتجه نحوه المنظومات التربوية في العالم، خاصة بعد جائحة الكورونا. ولا بد لتحقيق ذلك، من توفير كافة المستلزمات المطلوبة لذلك، من توفر مختبرات للتعلم التطبيقي، وتأمين الوصول العادل لجميع الطلاب الى كافة الأساليب الحديثة، وتأمين التجهيزات والتطبيقات التكنولوجية والمعلوماتية المطلوبة، والبنية التحتية المطلوبة.

كما أن ذلك يستلزم تغييراً جذرياً في بنية وأهداف وآليات الامتحانات الرسمية، التي ما زالت تقيم ذاكرة الطالب وما تختزنه من معلومات، وأصبحت بالتالي متشابهة مع سابقاتها، الى حد أن أحد خبراء اللغة العربية قد صرح مؤخراً، أن هناك 13 سؤالاً اذا درسها طالب البكالوريا القسم الثاني، فإنه سينجح في الامتحانات الرسمية حتى لو لم يكن يعرف غيرها في المادة. وهذا نموذج يتكرر في معظم المواد بشكل متفاوت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى