كتب نهاد المشنوق في “الجمهورية”:
ليس هناك من كلماتٍ تفيه حقّه. ولا من صفات تُظهر حقيقته. ولا من خريطة سياسية واحدة قادرة على ضبط حدود حركته طوال 60 عاماً من العمل العام.
قرأتُ في اليومين الماضيين كثيراً من الألقاب التي أطلقت عليه.
«أبو الياس» هو لقبه الأوّل بعدما تعب من التصاق لقب «دولة الرئيس» به إلى درجة أنّه صار في الدرجة الأخيرة من الاهتمام به والبحث عنه.
لذلك، تمهّلتُ في الكتابة عنه، للحاجة إلى مراجعة دقيقة لـ»تَفرّده» في كلّ ما عاش وفعل، ولـ»تَنوّعه» في كلّ ما سعى إليه وحقّقه.
ولنبدأ من الأحبّ والأكثر حرارة.
أولاً : الأب:
سمعةُ القادر والمنفّذ والحازم والحافظ للدستور وللقوانين، لم تحجب عنه ـ لمَن عرفهُ عن قرب ـ صِفةَ الأب المحيط بكلّ أمر، صغيراً كان أم كبيراً، لأولاده الثلاثة.
أما السيّدة الثانية، الأقرب إلى رمش القلب فيه، حين عانت عارضاً صحّياً، فراح يرافقها في رحلاتها، ليسأل «البرانس» البيضاء بمقدار ما يستطيع، باحثاً عن أجوبة علمية يريدها دائماً مُطَمئِنة.
أمّا الثالث فهو المهندس، السند ووليّ العهد، الذي عارَك السياسة في أصعب الظروف وأعقد الأوضاع، فجعل لنفسه قصّة نجاح انهار نصفها لكثرة الانقلابات في الوضع اللبناني، وأبقى في «ذاته» النصف الآخر احتياطاً محفوظاً، أخذه معه إلى العالميّة في «الإنتربول الدولي»، هرباً من الأحقاد المالئة للسياسة اللبنانية.
وصلَ التماثُل بينهما إلى أنّ الأب والابن تعرّضا لمحاولة اغتيال من طرفين سياسيين متناقضين، ما أكّد عمق روح سيادة لبنان واستقلاله في صورة الإبن، والاصرار على واقعية القرار في سياسة الأب.
كلّ هذا على وَقع الابتسامة الصادقة الدائمة للزائرة السنوية لسيّدة لورد، القدّيسة التي جعلتها السيدة سيلفي شفيعتها وصديقتها وملاذها الدائم.
ثانياً: الصديق الشجاع:
في حياة كلّ منا أصدقاء قلّة ينعم بمُسارَرتهم. ينقصون كلما مرّ الزمن، ومن يبقى منهم نعمة من الله. فكيف إذا كان هذا الصديق كريماً في شجاعته إلى حدّ المواجهة.
هذا هو أبو الياس: الكريم النفس. الكريم المُحيّا. ينصر أصدقاءه من دون حساب، ويحاسب خصومه بقساوة التفاصيل.
في أواخر التسعينات كنتُ في ضهور الشوير وحيداً ـ لالتزام أولادي بمدرستهم في بيروت ـ في شقتي الصغيرة، في عزّ الشتاء القارس، في إقامة جبرية، من الأمن السوري الذي سمح لي بزيارة لبنان في بداية سنوات المنفى، شرط ألّا أبقى في منزلي في بيروت وألّا أستقبل أصدقاء، يتشجّعون لزيارتي، وبالتالي لموقفي السياسي المعارض للوصاية السورية.
صورةُ السياسي والإداري، الكبير في أدائه، لا تشبهُ أبداً حُنوّه وعاطفته التي تجعل الدمعة أقرب إلى عينه عندما يرتبك مسار الأولاد ـ أو أحدهم ـ والذين صاروا سيّدتين ومعهم أولاد وأحفاد، إحداهما تتحمّل مسؤولية بلديّة عامة فضلاً، وبالنيابة عن الجميع، الإحاطة به في السنوات العَشر الأخيرة من حياته.
ضيفي في ذلك المساء كان أبو الياس، لكن على التلفزيون، مع العزيز مارسيل غانم. وأبو الياس كعادته مزهوّاً بفضائل أصدقائه وحاملاً لعصا الأوصاف على خصومه. بعثتُ برسالة إلى مارسيل قلتُ فيها مازحاً: «نِيّال اللّي بيرضى عنّو أبو الياس، والله يساعد اللي بيغضب عليه». وبالطبع، انتقلت الرسالة إلى أبو الياس.
منتصف الليل يدقّ الباب. فإذا بمرافق أبو الياس يتأكّد من وجودي في المنزل لأنّ دولة الرئيس في السيارة ويريد زيارتي. لم أستغرب. فأنا أعرف اندفاعه الأخلاقي لصداقاته. بالطبع كُثرٌ غيري يعرفون هذه الحقيقة، وشهدوا لها ومنها في كل المواقع والقرى والدساكر والعواصم. ولكن أن تكون الزيارة لمَغضوبٍ عليه إلى درجة النفي، في عزّ سطوة الأمن السوري، فهنا يَكمن الفارق. هذا هو أبو الياس.
ثالثاً: المهندس السياسي:
في بداية التسعينات، طلبتُ من مكتب أبو الياس، وزير الإتّصالات والدفاع، موعداً لإبلاغه رسالة من «الشيخ» رفيق الحريري، مالئ الدنيا بأخباره غير «الموثّقة» ورحلاته المكّوكية بين الرياض ودمشق وباريس باحثاً عن الأمن والأمان للّبنانيين، والمبعوث السعودي للاستقرار اللبناني، والواضِع على «أكتافه» العريضة في حرب إعمار وسط بيروت.
حُدّد الموعد. سلام وكلام واطمئنان عن «الشيخ» رفيق. كنتُ أحمل في جيبي لائحة مطالب من بيروت وصيدا، أهمّها لائحة أسماء مختصرة لتلامذة مرشّحين لدخول الكلّية الحربيّة. فجأة سألني أبو الياس: «أين لائحة المرشّحين للحربية؟». أصابني الذهول. كيف عرف ومن أين عن اللائحة؟ فلم أتردّد في سؤاله، وقد أجابني: «يا أستاذ، السياسة والخدمات مواسم. الآن موسم الحربيّة. فطبيعي أن تكون حاملاً لائحة مرشّحين. الأهمّ أن ينجحوا في الامتحانات». فأجبته «انّنا لا نريد تزكية أحد لم ينجح».
خرجتُ من عنده مُنبهراً وأنا «الفَتِيّ» في العمل العام. عرفتُ أنني كنت أمام مهندس سياسي، وليس مهندس اتصالات كما هو ذائع عن صيته في تطوير وزارة الإتصالات.
لكلّ موقع خريطة عند أبو الياس. يذهبُ إلى دمشق لمقابلة الرئيس حافظ الأسد وبعدها لزيارة عبد الحليم خدّام، وفي طريق العودة يمرّ بغازي كنعان، وعند الضرورة يُكمل ليزور رستم غزالة. يتصرّف معهم دائماً على أنّه «حاجة» لهم أكثر ممّا هم ضرورة له. فهو القادر على تدوير الزوايا وإصلاح ذات البَين بين رئيس مجلس النواب نبيه برّي والرئيس الشهيد رفيق الحريري، وقبلهما وبعدهما رئيس الجمهورية الياس الهراوي.
في الشكل كان أبو الياس أقرب إلى الهراوي، أما في دواخله فهو المُطمئِن لبرّي. أما مع الرئيس الحريري فله حكاية تتحمّل صفحات كثيرة ليس الآن مجالها. أهمّ ما فيها أنّه في الحكومة الأولى للرئيس الحريري سُميّ أبو الياس نائباً لرئيس مجلس الوزراء من دون حقيبة، بعدما كان وزيراً للداخلية في أولى حكومات عهد الهراوي. فلم يتبرّم. بل ظلّ مواظباً على موعد أسبوعي له في قريطم مع الحريري. يدخلُ محاولاً نَسج حبائل الودّ، ويخرج حاملاً ابتسامته التي رافقته في الدخول.
مرّت أشهر طويلة وهو على هذا المنوال لا يكلّ ولا يملّ حتّى اكتملت خريطته بين دمشق وبيروت، فحصل التغيير الوزاري الذي أعاده إلى وزارته «الداخلية». فإذا بأبو الياس يصبح مع الوقت من الوزراء الدائمين مع الحريري، ليأتي بعده نجله الياس.
قد لا تعجب هذه السيرة شباب هذه الأيام وثوّارها، في اعتبارها «تقليدية» كما يعتقدون، لكنها حقيقة سياسية لظاهرة «شخص واحد» لا يملك حزباً منظّماً، استطاع أن يجعل من نفسه، لعشرات السنوات، ظاهرةً لن تتكرّر.
عندما تسلّمتُ وزارة الداخلية في العام 2014 تبيّن لي أنّ وزراء كُثراً مرّوا على الوزارة خلال أكثر من عقد من الزمن، وأنّ الباقي الوحيد في المبنى التاريخي في الصنائع هو أبو الياس. الأهمّ ما تركه من أثر في إعادة تنظيم المديريّات العامة السبع للوزارة وجَعل مركزيّة القرار بين يدي الوزير، وكأنّه رسمها على قياسه، فصارت على اسمه في لوحة تنظيمية كانت معلّقة في المدخل إلى أن نقلتَها إلى صدر غرفة الاجتماعات التي صَمّمها وطاولتها الكبرى، على مقاس اجتماعاته، لتصير الثالثة في الشهرة بعد طاولتَي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء.
في كلّ ما سبق وما سيلحق من سيرة أبو الياس، يمكن اختصاره بالاعتماد على ثلاثة قواعد في عمله السياسي:
ـ القاعدة الأولى، هي دقّة رَسمه الخرائط السياسية التي يضع خطوطها الرئيسية، ويصبر عليها حتى تنضج ظروفها لتصبح حقيقة أمام عينيه، سواء بما يريده لنفسه أو بما هو هو مكلّف به «من فوق»، كما كان التعبير السائد في أيامه قبل العام 2005.
ـ القاعدة الثانية، أنّه جمع ثروة كبيرة من عمله في المقاولات في أفريقيا، فقرّر أن يقف على ثروته لتطاول يداه الغيوم أينما حلّ وأينما استوجَب ذلك، بدلاً من أن يضعها على رأسه حرصاً عليها فتجعل يديه عاجزتين عن الحركة.
ـ القاعدة الثالثة، هي «الأمارة»، وهي المبنى المعروف بإسم «العَمارة» المقرّ الحزبي الأكبر في زمانه، والمنتشِر عَصَباً وحزبية وقدرة بما يفوق قدرة الأحزاب التاريخية المتمرّسة متنياً. لا يترك بلدية ولا مختاراً ولا ناخباً محتاجاً لشيء. يدعمهم في الصالح والطالح. يدبك في أعراسهم، ويتقبّل التعازي في أحزانهم. ويتولّى «نقوط» الأعراس ومصاريف الأحزان وغيرها الكثير مما لا يعرفه إلّا مدير مكتبه نديم أبو جودة. يعرفهم فرداً فرداً وبالإسم، ولا يمتنع عن استقبال أيّ منهم، حتّى لو جاء في منتصف الليل، سيجده في مكتبه حاضراً مبتسماً ليقضي له حاجته.
من هنا استطاع أبو الياس أن يؤسّس الأرثوذكسية الشعبية بعد أرثوذكسية حبيب أبي شهلا الاستقلالية، وأرثوذكسية فؤاد بطرس النخبوية الشهابية.