كثر الحديث أخيراً عن التوجه شرقاً حلاً لما يعاني منه لبنان من معضلات وأزمات اقتصادية ومالية ونقص في العملة الصعبة، وكالعادة فإن مسألة التوجه شرقاً أخذت حيزاً واسعاً من النقاش والاختلاف السياسي، بين مؤيد ومعارض.
وكانت المطالبات بالتوجه شرقاً قد أخذت شكل التوجه الاقتصادي، لكنها في الأساس توجّه سياسي مغلف بوجهة اقتصادية، مع الإشارة الى أن الاقتصاد اللبناني هو ا قتصاد يعتمد التوجه الليبرالي الحر، فضلاً عن أن النظام المصرفي اللبناني يعتمد على المصارف المراسلة الموجودة في الغرب، بخاصة في نيويورك ودول أوروبا الغربية، مع ما تشكله تلك المصارف الخارجية من أهمية على صعيد الاعتمادات الخارجية وتأمين المواد المستوردة الى الداخل اللبناني.
وكانت المطالبات بالتوجه شرقاً قد أخذت أوجهاً متعددة، فمن جهة طالب البعض بإنشاء سوق مشتركة مشرقية مع دول عربية مجاورة مثل سوريا، إضافة الى العراق والأردن، والمشترك بين تلك الدول ولبنان هو اقتصادها المتهالك، وهذه الدول باستثناء العراق تعتمد بالكامل على المساعدات الخارجية لإنعاش اقتصادياتها، ومن جهة أخرى، طالب البعض بالتوجه للاعتماد على العملاق الصيني بديلاً من الولايات المتحدة، بخاصة في ظل القدرات الصينية الاقتصادية الضخمة، مستندين في مطالبتهم تلك الى حجم الاستثمارات الضخمة التي يقوم بها عملاق شرق آسيا في كل أرجاء المعمورة، كما تعالت أصوات نادت بضرورة فتح الأسواق اللبنانية والانفتاح على أسواق خارجية جديدة، بخاصة إيران، مع الاعتماد على الاستيراد بالعملة اللبنانية، وهي التي تعاني ما تعانيه من عزلة وعقوبات وأزمات مالية واقتصادية، وقد وجدت في الاتفاق مع الصين سبيلاً للتخلص من بعض أزماتها المتمثلة بحجز أموالها في المصارف الغربية.
وهنا، لا بد من التوضيح أن لبنان منذ إنشائه عام 1920، إنما ارتبط بعلاقات متقدمة مع كل دول العالم، وارتباطه بدول الغرب عائد الى كون تلك الدول هي التي تتحكّم بالاقتصاد العالمي، والمغتربون اللبنانيون إنما يتواجدون بقوة في أوروبا وأميركا، ويساهمون في إنعاش الاقتصاد اللبناني وتزويده دائماً بالعملة الأجنبية، كما أن دول الغرب قدّمت مساعدات للبنان في مؤتمرات باريس المتعددة، لكن الارتباط اللبناني بالغرب لا يعني أن لبنان منعزل عن دول الشرق، فالعلاقات مع روسيا متميزة، بخاصة بعد وصول قيصر روسيا الجديد فلاديمير بوتين الى سدة الحكم، أما الصين فبرغم قوّة اقتصادها، لم تستثمر في لبنان بالحجم المطلوب، وذلك عائد الى أن الصين إنما تقيس استثماراتها بحجم مصالحها.
إن فكرة التوجه شرقاً، ما هي إلا توجه سياسي بحت، ومختصرها الانضمام الى حلف سياسي غير مكتمل العناصر، هذا إن وجد هذا الحلف بالأصل، كما هو موقف معاد للولايات المتحدة وحلفائها، بخاصة العرب منهم، ما يطرح السؤال: هل يمكن للبنان – المفلس والمعزول – أن يدخل في سياسة محاور وهو أعجز عن مواجهة تداعيات الانضمام الى تلك المحاور، أضف الى ذلك أنه لم تتبلور حتى تاريخه فكرة وجود حلف شرقي، كما أن مقوّمات هذا الحلف غير موجودة كا أسلفنا القول.
كما أن فكرة التوجه شرقاً، تطرح مسألة العلاقة مع الأشقاء العرب، فدول الخليج العربي قدّمت مساهمات ضخمة، كما أودعت مبالغ نقدية في فترات صعبة للاقتصاد اللبناني، هذا فضلاً عن مساهماتها في إعادة إعمار لبنان، فالتوجه الى العرب قد يكون أولوية على الانضمام الى محاور قد تقضي على مستقبل لبنان ودوره التاريخي، وألا تشكل السوق العربية المشتركة ـ وهي بمثابة حلم ـ أفضل حل للاقتصاد اللبناني؟
وبالعودة الى الاعتماد على الشرق، فهل بادرت أي من تلك الدول التي يرغب البعض في الاعتماد عليها أو الانضمام الى فضائها، الى القيام بما يلزم لمساعدة لبنان وانتشاله من أزماته، فبرغم مرور نحو سنتين على بدء الأزمة التي يعانيها لبنان، لم تبادر تلك الدول الى تقديم ما يثبت رغبتها في المساعدة أو الاستثمار، والأمر أن مساعدة لبنان تاريخياً، ارتبطت بدول الخليج العربي ودول أوروبا، بخاصة الغربية منها، وهو ما ظهر في الخطة الألمانية لإعادة إعمار مرفأ بيروت.
إن المطروح على الساحة اللبنانية بخصوص ما اصطُلح على تسميته “التوجه شرقاً” إنما المراد منه القضاء على دور لبنان التاريخي وسوقه الى تموضع يقضي على ما تبقى من مميزات لبلاد الأرز، فانهيار القطاع المصرفي أنهى دور لبنان المتمثل باجتذاب الأموال الخارجية، وهو الدور الذي مارسه لبنان منذ خمسينات القرن الماضي، بعد الطفرة الناتجة من الاستفادة من الثروة البترولية الخليجية، كما أن انهيار الاقتصاد اللبناني وما تبعه من انهيار قطاعه التربوي، أنهى الدور الرائد للبنان في المجال التعليمي والثقافي.
على لبنان أن يعمل وفقاً لمصالحه، وأن يستفيد من مقوّمات نجاحه التاريخية، وهو يملك كل ما يلزم للعودة الى ممارسة دوره الرائد، وهنا لا بد من التنويه بما يحدث من طفرة اقتصادية في كل من القاهرة ودبي، وبيروت يمكنها المنافسة بسهولة، وما فترة تسعينات القرن الماضي إلا مؤشر الى ذلك، فمتى استيقظت من سباتها ستعود الى دورها التاريخي، شرط عدم جر لبنان الى محاور أو أحلاف ميزتها طوابير الانتظار أمام محطات المحروقات.