منوعات

التعليم عن بعد: من الحمام الزاجل إلى تغريدة الكترونية

كامل العريضي

حاز مصطلح “عن بعد” الصادرة المطلقة في الكون بعد انتشار جائحة كوفيد – 19، وأصبح توأما لها، بسبب ضرورة التباعد الاجتماعي منعا لانتقال هذه العدوى بين الناس. ولعل من أكثر الكلمات ارتباطا بهذا المصطلح هي “التعلم” أو “التعليم”. ويكفي أن تكتب على منصة غوغل “التعلم عن بعد” حتى يظهر لك أكثر من مليار بحث أو دراسة أو مقال أو أخبار متعلقة به. وهذا إنْ دل على شيء فهو يدل على الحجم الهائل الذي يحظى به هذا المصطلح على الصعيد العالمي.

      قد يتبادر إلى الذهن أن التعلم عن بعد – ويرى علماء اللغة العربية أن جملة التعلم عن بعد أصبحت خطأ شائعا، والأصح لغويا هو “التعلم من بعد”- هو حالة حديثة بسبب وباء كورونا الذي أجبر المدارس والمعاهد والجامعات إلى الإغلاق، مما اضطرها إلى اعتماد التعلم من بعد عبر التعليم المباشر من خلال الانترنت وأجهزة الحاسوب والهواتف الذكية والتابلت، أو من خلال نماذجه المعتمدة في بعض الجامعات، ولكن وبكل تأكيد، القلة القليلة تعلم أن جذور هذا النموذج من التعليم يعود إلى حقبة الفلاسفة اليونانيين. أشعر عزيزي القارئ أنك تفاجأت هنا وكانت ردة فعلك التلقائية تكبير عينيك وتقديم رأسك نحو الشاشة، وبعد قراءة هذه الجمل بدت الابتسامة الجميلة على محياك، والآن كأني بك يرتفع صوت ضحكتك قليلا التي أرجو الله لك الاستدامة لها على وجهك الكريم. ولعل ما يدور في خلدك في هذه الهُنيهة عبار”ماذا يريد مني فلان وهو يتابعني بكل هذه التفاصيل في أثناء قراءتي”؟ صحيح هذا حقك! وعذرا على التدخل في انطباعاتك. وكأني بك تقول هيا أخبرني عن كيفية التعليم من بعد عند الحكماء اليونانيين. نعم صديقي هيا بنا نترافق في رحلة تاريخية للتعليم من بعد، وكيف نشأ وما هي طرائقه وكيف كانت أساليبه.

تعرف منظمة اليونسكو التعلم من بعد: بأنه الاستخدام المنظم للوسائط المطبوعة وغير المطبوعة التي تكون معدة إعداد جيدا من أجل جسر الانفصال بين المتعلمين والمعلمين، وتوفير الدعم للمتعلمين في دراستهم.

      وهناك تعريف آخر أكثر تفصيلا: هو نظام تعليمي متكامل ينفصل فيه المتعلمون عن المعلمين جغرافياً. ويقوم هذا النظام على أساس إيصال المحتوى التعليمي للمتعلمين في مواقع إقاماتهم أو عملهم عبر وسائل الاتصال المتاحة كالبريد العادي والبريد الإلكتروني والإنترنت. فالتعلم هنا هو تعلم ذاتي نشط يستند إلى أساليب متعددة، وقد يستخدم تقنيات التعليم الإلكتروني، ولكنه غير مرتبط بها ولا يشترط الاعتماد عليها.

      يمكننا الاستنتاج من خلال التعريفين أن التعليم من بعد، هو نظام تعليمي قائم على الانفصال الجغرافي بين المعلم والمتعلم، ويمكن استخدام شتى الوسائل لإيصال المنهج المطلوب للمتعلم، سواء المكتوب أو غير المكتوب، عبر الرسائل الخطية المتبادلة، أو بواسطة ساعي البريد، أو الجرائد والمجلات، أو الراديو والإذاعة، أو التلفاز أو الانترنت والبريد الالكتروني. إذًا، إن التعليم الالكتروني الحاصل اليوم هو نتيجة التطور التقني الهائل إلا أنه نوع من أنواع التعليم من بعد.

متى بدأ نظام التعليم من بعد؟

تشير بعض الدراسات والأبحاث إلى أن تاريخ التعليم من بعد يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، أي إلى زمن الفيلسوف اليوناني أفلاطون ومعاصريه من الفلاسفة. فالفيلسوف أفلاطون كان يعتمد أسلوب الرسائل بينه وبين تلاميذه لشرح أفكاره الفلسفية، ومثله العليا، وكان أيضا يتلقى إجاباتهم وأسئلتهم عبر الرسائل تلك. وهكذا كان يفعل العديد من الفلاسفة في تلك الفترة. وفي العصر العباسي لجأ العديد من العلماء وشيوخ الطرائق إلى اعتماد الرسائل مع مريديهم. ولعل للحمام الزاجل الذي كان سائدا في تلك الحقبة الزمنية وما بعدها دورا في تبادل الرسائل العلمية على غرار الرسائل العسكرية أو الإخبارية. وهذا ما دفع بعض الدول كالدولة الفاطمية إلى تأسيس ديوان مستقل للحمام الزاجل له تنظيمه الإداري الخاص به. وكان الخبير بهذا الحمام يسمى “صاحب الحمام” من جملة كبار مسؤولي الدولة.

ويجد  بعض النقاد أن تلك المراسلات على الرغم من أهميتها في تحقيق التواصل القائم من بعد إلا أنها لم ترقَ إلى نظام التعليم من بعد بالبعد المنهجي الأكاديمي، حيث لم يكن هناك جامعة رسمية أو مدرسة توثق تلك المراسلات والمُكاتبات وتؤرشفها ضمن مكتبتها الخاصة، بل هي مجرد تواصل شخصي بين مجموعة من الأشخاص.

ومن ناحية أخرى يرجع آخرون نشأة نظام التعليم من بعد إلى ما بعد إنشاء المكاتب البريدية المنظمة في بريطانيا عام 1410م. فكانت أولى محاولات التعليم من بعد في عام 1728م عندما تم نشر إعلان في جريدة بوسطن جازيت للمعلم “كاليب فيليبس”، مُدرِّس الطريقة الجديدة المسماة “اليد القصيرة”، والذي خاطب الطلاب الراغبين في التعلم من خلال الدروس الأسبوعية بالبريد.

وفي عام 1840 قدم السير إسحاق بيتمان أول دورة تعليمية من بعد بالمعنى الحديث، حيث قام بتدريس نظام الاختزال عن طريق إرسال نصوص مكتوبة بشكل مختصر على بطاقات بريدية، وتلقي نسخ من طلابه مقابل التصحيح. كانت ملاحظات الطلاب الراجعة بمثابة ابتكار حاسم في نظام بيتمان. وأصبح هذا الشكل قابلا للتطبيق في إنجلترا  إذ أثبتت هذه البداية المبكرة أنها ناجحة للغاية، وتم تأسيس جمعية المراسلة الصوتية بعد ثلاث سنوات لإنشاء هذه الدورات على أسس أكثر رسمية. مهدت الجمعية الطريق لتشكيل لاحق لكليات السير إسحاق بيتمان في جميع أنحاء البلاد. تلتها بعد ذلك ألمانيا عام 1856 بتأسيس مدارس لتعليم اللغات بالمراسلة، ولم يبدأ بأمريكا إلا في أوائل القرن التاسع عشر لينتشر بشكل جلي سنة 1873م حيث عملت الكنائس المسيحية على تيسيره بين الأمريكيين، مستعملة التراسل بين المعلمين والمتعلمين، إلا أنها تقتصر على الكبار الراغبين في الاستفادة من دون درجات علمية أو شهادات. ولم يبدأ العمل بالدرجات العلمية أو الشهادات إلا سنة 1883م حيث قامت كلية الفنون الليبرالية Chautauqua في نيويورك بإعداد أول درجات علمية عن طريق التعليم بالمراسلة التي تتضمن الكتب والأوراق، مع الإشارة إلى أن هذا النوع من التدريس كان تحت إشراف إدارة الكليات النظامية ذات التدريس التقليدي.

أما بدء العمل بإدارة مستقلة للتعليم بالمراسلة فكان في جامعة شيكاغو التي تأسست عام 1892م، لتصبح أول جامعة على مستوى العالم التي تعتمد التعليم من بعد. وتعد جامعة أكسفورد التي تأسست عام 1894، أول كلية للتعليم من بعد في المملكة المتحدة.

وكانت القفزة النوعية في نظام التعليم من بعد، عام 1920 عندما لجأ الاتحاد السوفياتي لنظام التعليم عبر الإذاعة من خلال الراديو وذلك بهدف نشر العلم بين أوساط شعبه. كما حقق فكرة مبتكرة عبر اعتماد الدوام الصباحي والمسائي للتعليم الجامعي ودمج التعليم بالمراسلة مع الحضوري وذلك إفساحا بالمجال أمام اليد العاملة والكادحة لتأخذ حقها من التعليم. ونظرا للنجاح الكبير الذي حققته تلك التجربة السوفياتية والأثر التعليمي الجيد، فقد اعتمدته الولايات المتحدة الامريكية عام 1921 ومن ثم انتشر في الدول الأوربية.

وبعد انتشار التلفاز في الولايات المتحدة الامريكية،  استعانت كليات جامعة شيكاغو بالتعليم عبر التلفاز، وكان إنجازا علميا هائلا في وقته حيث كان الطالب يسمع ويشاهد استاذه في أثناء شرح الدرس والمنهج المطلوب. ونظرا للإفادة الكبيرة لهذه الطريقة في التعليم، انتشرت انتشارا واسعا في العالم بالإضافة الى استعمال تقنية أشرطة الفيديو والتسجيل الصوتية مما ساهم كثيرا في تعزيز أسلوب التعليم من بعد. وابتداء من سنة 1970 تأسست أربع جامعات في أوروبا وأكثر من عشرين حول العالم تطبق تقنية التعليم من بعد.

أما في عالمنا العربي، فتم إنشاء الجامعة المفتوحة في الجماهيرية الليبية عام 1987. كما وتعد جامعة القدس المفتوحة الأولى من نوعها في المجتمع العربي، حيث بدأ التفكير في إنشائها عام 1975.

وبعد التقدم التكنولوجي الهائل، واختراع الحاسوب، وانتشار الشبكة العنكبوتية، والهواتف الذكية والأيباد، كان من الطبيعي تسخير هذه الاختراعات لتعزيز التعليم من بعد، عبر المدارس والجامعات في أرجاء العالم. وهكذا قدم الابتكار الرقمي خيارات جديدة للمتعلمين، فبدأ العمل بالغرف الصوتية والمنصات الإلكترونية، وكان أولها منصة “كورسيرا”، التي انطلقت عام 2011 وحققت في فترة قياسية انتشارًا واسعًا. أما منصة “رواق” العربية فقد أنجزت سنة 2013 كمنصة تعليمية حديثة، وهي منصة عربية للتعليم المفتوح في مواد أكاديمية مجانية باللغة العربية في شتى المجالات والتخصصات، ثم أسس موقع “إدراك” التعليمي تقنيات جديدة للتعليم الإلكتروني المجاني باللغة العربية عام 2014.

ينقسم التعليم عن بعد من حيث النقل الى نمطين:

أ‌-    النقل المتزامن: يكون الاتصال والتفاعل مباشرة أي في الوقت الحقيقي بين المحاضر والطلاب في مؤسسات التعليم المختلفة من جامعات ومعاهد ومدارس وذلك في حالة التعليم من بعد. وكذلك عند إقامة بعض الدورات التدريبية من بعد.

ب‌-       النقل اللامتزامن: يقوم المحاضر بنقل المادة الدراسية أو توفيرها بواسطة أشرطة الفيديو، أو عبر جهاز الكمبيوتر أو أي وسيلة أخرى، والطالب من الجانب الآخر يتلقى أو يتحصل على المواد في وقت لاحق.

 

عزيزي القارئ،

إن التطور هو حالة تراكمية تزداد وتنمو عبر الأجيال. فلولا الأساليب التي نعدّها اليوم بدائية لنظام التعليم من بعد، وكل المحطات التي مر بها، لما استطعنا أن نصل إلى النظام القائم الآن، وهو بكل تأكيد الأكثر تطورا وسرعة وانتشارا وإفادة، بفضل الانترنت والمنصات الرقمية والكتب التفاعلية والفيديوهات التوضيحية، ومن دونه لما تمكن تلاميذ العالم استئناف تعليمهم هذين العامين بسبب تفشي جائحة كورونا والتزام الحجر المنزلي، وبالتالي خسارة كبيرة في مسيرتهم التعليمية. وأعتقد أن في القادم من الأيام سوف يصبح التعليم الالكتروني من بعد أكثر رواجا، وسيكون التنافس بين المدارس والجامعات في اعتماده بشكل دائم لمن يرغب به، حتى بعد انتهاء تلك الجائحة. ومن الطبيعي أن ينعكس هذا الخيار على المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة، لأن ما بعد كورونا ليس كما قبله على صعد مختلفة ومتنوعة.

المراجع:

1-   نظرة سريعة في تاريخ التعلم عن بعد ،20 أكتوبر 2015، موقع عالم التقنية.

2-   تفيدة الجرباوي، التعليم عن بعد: النشأة والتطور، 5- 5- 2020، موقع جريدة الأيام.

3-   ناهد ابراهيم عجوة، التعلم عن بعد، 13- 8- 2020، وكالة وطن للانباء.

4-   مصطفى الحشاش، التعليم عن بعد؛ مفهومه، وتاريخه، ومبادئه، وتقنياته؛ فبراير 28- 2019؛ https://arblog.praxilabs.com/ .

5-   منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة؛ تقرير حول استجابة الدول العربية للاحتياجات التعليمية في جائحة كورونا؛ تموز 2020.

6-   عبد الرزاق بن شريج؛ نبذة تاريخية عن تطور “التعليم عن بعد”؛ 19 – 5 – 2020، موقع دكالة تيفي.

7-   حسام الفقي؛ بدايته الرسائل البريدية.. تعرف على تاريخ التعليم عن بعد؛ ديسمبر 2020؛ صدى البلد.

8-   ناهدة عبد زيد الدليمي؛ التعلُّم عن بُعد: مفهومه وتطوُّره وفلسفته؛ أيار 2020؛ موسوعة التعليم والتدريب.

9-   التعليــم عــن بعـــد مفهـومـه، أدواتُـه واستـراتيجيّـاتُـه، دليل لصانعي السياسات في التعليم الأكاديمي والمهني والتقني؛ منظمة الأمم المتحدة للتربیة والتعلیم والثقافة (الیونسكو)؛ 2020.

10- عمر حسين الصديق بوشعالة؛ التعلم عن بُعد بين “المفهوم ـ والتأصيل”، نيسان 2020؛ المركز الديمقراطي العربي – للدراسات الاستراتيجية، الاقتصادية والسياسية.

11- ريما سليم ضوميط؛ التعلّم عن بعد: ما للتجربة وما عليها؛ العدد 419 – أيار 2020؛ مجلة الجيش اللبناني.

12- أحمد إبراهيم؛ قصة الحمام الزاجل.. حملت رسائل “سري للغاية” و”عاجل” تحت جناحيها طوال قرون؛ تموز 2020؛ الجزيرة نت.

13- التعليم عن بعد في العالم والوطن العربي؛ أيلول 2018، مدونة الأكاديمية.

14- Börje (2005( The  Evolution, Principles and Practices of Distance.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى