“أهل السياسة” اللبنانية يتوزعون بين وارث بيولوجي وراكب لموجة الحرب الأهلية، عصبهم جميعاً يرتكز بين “سياج الطائفة” و”أبواب السفارة”.
في المقدمة أعلاه توصيف لا إساءة للطبقة السياسية، والطبقة تلك تحت حماية ماكينة النظام الراسخ ودولة عميقة تحمي هذا الهجين من الموت، فلا آلية مبتكرة لتداول السلطة والتغيير الحقيقي، رغم محاولات قلة قليلة التفلت من براثنه والالتفاف على “البلوكات” الجامدة برؤى مختلفة، بعضها نجح جزئياً وأخرى سقطت في مهدها، ومن النجاحات الجزئية حالة مثلها النائب والوزير السابق “عبد الرحيم مراد”.
هدوء المتمكن
رغم كل ما يقال عن ظاهرة “الناصري العتيق” من سلبيات وايجابيات، تبقى أقوى أسلحة “أبو حسين” الشخصية سمة “الهدوء والتصميم”، وهو بالمناسبة سلاح فتاك لمن أحسن استعماله، هدوء يبدأ من الخطاب المتوازن بثبات الى يومياته وحركته وتفكيره ومبادئه وصولاً الى حجم المؤسسات التي ساهم بإنشائها.
لا تدخل زائراً على تلك العائلة البقاعية الأصيلة إلا وترى البسمة تعلو محياها، و”الرواق” في شخصية “معاليه” فرضه على من حوله ومعارفه حتى انقطاع النفس، لكن الهدوء لا يعني السكينة بل العمل والمثابرة والاستيقاظ باكراً.
فالزوجة النشيطة السيدة منيرة، شريكة التفاصيل الدقيقة، هي حجر اساس في عمل الثنائي المناضل بكل الأطر، منذ البدايات حتى اللحظة، وان حمل حسن عن كاهل الزوجين كماً من الجهد، تبقى لهما الكلمة الفصل والسطوة المعنوية.
مملكة الخيارة
الخيارة، من قرية نائية في سهل البقاع الغربي الى “نجمة” تنمية في قلادة “مؤسسات الغد الأفضل” الممتدة من لبنان الى العالم، وكان “للناصري” الهادئ اليد الطولى في الدمج بين الموقف السياسي الثابت عند الخطوط الحمر، وبين بناء مؤسسات تنموية.
لا يتورع إبن غزة البقاعية عن ترداد لازمة توصيف ما قام به بالقول “بالتنمية وبناء المؤسسات نطبق تجربة القائد جمال عبد الناصر الحضارية ونكون أوفياء لمبادئه من أجل انساننا العربي، يحق لنا العيش بحياة كريمة كما لغيرنا على هذا الكوكب الفسيح”.
السياسة في خدمة المؤسسات
عادةً ما يُنشئ الساسة اللبنانيون مؤسسات تخدم أهدافهم وتوسع من سطوة نفوذهم، ولهذا فلسفة وشرح طويل في التجارب اللبنانية، خاصةً تلك التي تتعلق بسطوة الجماعات الدينية وكيف تستخدم المؤسسات التربوية للإمساك بمفاصل المجتمع والدولة.
هنا تختلف التجربة مع آل مراد، مؤسسات تربوية وتعليمية واجتماعية ضخمة دون سطوة مباشرة لأي مرجعية دينية، وإن كانت تحت سقف الشرائع والتوجهات الدينية والروحية، ولكنها توجهات اجتماعية وسياسية في الاطار الوطني والقومي.
ولأبو حسين فلسفة واضحة في تقديم هدف “مؤسسات الغد الأفضل” حين يقول “نحن ننتمي إلى جيل عانى الأمرَّين في حراكه التعليمي، متنقلاً بين بلدة وأخرى، ومدرسة ومدرسة، وأحياناً بين دولة ودولة، وإذا اتخذت من نفسي مثالاً على ذلك، فقد بلغتْ محطات التغيير والتنقل المدرسيّة عندي أكثر من عشر، بين قريتي غزة في البقاع الغربي، والقرية المجاورة لها جب جنين، ثم عاليه وصيدا، ثم دمشق والقاهرة فبيروت، في الجامعة اللبنانية وجامعة بيروت العربية، دون أن أنسى البرازيل كمحطة من محطات التعليم الجامعي، الأمر الذي جعلني والكثير من أقراني، نشعر بمسؤولية تربوية شخصية نحو منابتنا الأولية، عززها لدينا انتماء جيلنا إلى حقبة سياسية وضّاءة، قادها جمال عبد الناصر”.
ويتابع “بين هذين الحدين، حدّ المعاناة في التعليم، وحدّ الطموح الذي أيقظته فينا الناصرية والعروبة، تبلورت لدينا فكرة العمل العام، وفكرة أن يكون الانطلاق فيه من التربية والتعليم، وميّزنا أنفسنا بها بمشاريع صحية وخدماتية وبانطلاق مشروعنا التربوي المتكامل في التعليم العام والمهني والتقني، وفي الرعاية التربوية الاجتماعية، وفي التعليم الجامعي ممثلاً بالجامعة اللبنانية الدولية، بفروعها التسعة في لبنان، وبامتدادها بخمسة فروع في الخارج من اليمن الى موريتانيا، قناعة منا بأن التعليم حق لكل إنسان، وإيماناً بالإنماء اللبناني المتوازن، ووضع لبنة في الوحدة التربوية عربياً، مقدمة لوحدة أعمَّ وأشمل، لم يكن الهدف لدينا أن نكون رقماً عددياً يضاف إلى ما هو قائم في التربية والتعليم، وإنما أن نسير بهذا المجال خطوة إلى الأمام حيث حققنا على المستوى المعرفي نجاحاً مميزاً، وفي أقل من عشر سنوات أصبحنا في لبنان الجامعة الأفضل إعداداً والأكثر عدداً بين الجامعات الخاصة”.
المؤسسات بين جيلين
لا تخلو مناسبة عامة أو يوم الا ويكون للنائب حسن مراد كلام وبيان وتويت يتعلق بالتعليم والتربية، وهو من ترأس لجنة التربية النيابية في المجلس الجديد، ومن يقرأ في بيانات ونشاطات السياسي الشاب يلمس خبرة وحيوية المتابع اللصيق للملف، دون أن يغفل كل الملفات التنموية الأخرى.
عندما تقصد تلك البقعة الخلّابة من السهل، تسحرك صورة “مؤسسات الغد الأفضل” ضخامة البناء وجماليته البيئية، وتسلب انتباهك سرعة تطورها المستمر، هذا قبل أن يلاقيك مسؤوليها بالترحاب وقيادتك برحلة تعريفية سياحية في أرجاء “الامبراطورية” التربوية والاجتماعية: في كل زاوية حكاية وامام كل حائط قصة، أعداد طلاب لافتة، مقيمين كثر في أقسام الخدمات الاجتماعية وجيش من الموظفين.
لم تتغير المسيرة مع تسلم حسن الراية من والديه، كمدير للمؤسسات او أمين عام لحزب الاتحاد أو المقعد النيابي، بل زاد على ذلك بأفكار خلّاقة في العمل الاجتماعي أو التشريعي او التنموي، وهو من سارع لطرح مجموعة من العناوين خاصةً بعد ترؤسه لجنة التربية النيابية، وبعض تلك العناوين جديدة وجديرة بالقراءة:
– العمل على إنقاذ القطاع التربوي بعد سنوات عجاف طالما التعليم أهم استثمار مستقبلي، وتطوير المناهج التي لم تمس منذ العام 1997 ووضع تشريعات للتعليم عن بعد وتعزيز التعليم المهني.
– حل أزمة رواتب الأساتذة في المدارس والجامعة اللبنانية مع الحوافز المالية والضمانات وحصر الهبات والمساعدات والمنح والقروض بجهة واحدة وتطوير أجهزة وزارة التربية.
بالإضافة الى معالجة نزيف الهجرة وأثر النزوح السوري وتعزيز الثقافة الوطنية الجامعة وإقرار التشريعات اللازمة لحماية الثقافة الوطنية من الإعتداءات الصهيونية ومواجهة التطبيع الثقافي والإهتمام بالمكتبة الوطنية وفتح الأرشيف الوطني امام الباحثين، ووضع مفاهيم للتمييز بين القطاع الثقافي والقطاعات الترفيهية.
وغيرها من المتابعات اليومية العامة، وهذا أمر نادر الحصول في الندوة البرلمانية اللبنانية وفي لجانه التي تعتبر مقبرة القوانين والعمل في غالب الأحيان.
هذه العينة من طروحات مراد الإبن لا تمنعه من الجهد المتواصل على الأرض من متابعة دور المؤسسات وإضافة المزيد عليها، كما فعل خلال أزمات كورونا أو تساقط الثلوج للتدخل السريع مع متطوعين وعاملين وتخفيف آلام أبناء ذاك الريف المنسي من سلطة مركزية “بيروت وضواحيها المترفة”.
التجربة والبرهان
في هذه العجالة الصحفية، لا يمكن الإحاطة بكل تفصيل لكن واجب الإضاءة على التجربة كي تكون مثالاً في خوض العمل السياسي التنموي في بلاد الأرز الغارقة حتى النخاع في التمذهب والتعصب وترك الأراضي الزراعية بور وإهمال الإنتاج على حساب العصبية.
حبذا لو كانت هذه التجربة مثالاً يحتذى في سلوك الدروب السياسية، فليس باب التمويل أو الزحف أو المزايدات الضيقة وشد العصب هو الوحيد للدخول في اللعبة الانتخابية.
ألا يجب أن يقترن الطموح السياسي بتقديم الأفضل للناس؟ نعم
وهذه تجربة آل مراد جديرة بالمتابعة، لم يُستخدم المال السياسي في تنظيم ميليشيا وسلاح، بل عمارات من علمٍ وأخلاق وآلافٍ من المنح والمساعدات.
هو مشروعٌ سياسي وتنموي رابح على المدى الطويل… لمن يمتلك نفساً عميقاً وأعصاباً هادئة.