أحد الأسباب الأساسية لانتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، يكمن في عدم قدرة الأخيرة على مجاراة التطور التكنولوجي للأولى ونموذجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
تشهد منطقة الشرق الأوسط حرباً باردة بين المملكة العربية السعودية وإيران، ونهاية هذه الحرب لن تكون بانتصار عسكري لهذه الدولة أو تلك، لأنّ الحروب العسكرية هي الاستثناء لا القاعدة والدليل الأبرز الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو والتي لم تتحوّل إلى ساخنة، إنما الانتصار هو كناية عن تفوّق نموذج على آخر فينتفي تلقائياً وجود النموذج غير القادر على اللحاق بركب العصر والحداثة والتطور والحضارة.
وأيّ مراقب موضوعي ومن خارج محاور الصراع لما تشهده كل من السعودية وإيران، يخلُص إلى استنتاج حاسم بأنّ مصير طهران في حربها الباردة مع الرياض لن يختلف عن مصير موسكو في حربها الباردة مع واشنطن، وان المسألة مسألة وقت لا أكثر، وان ذكاء المملكة يكمن في خروجها من ردّ الفعل على اختراقات إيران للدول العربية وزعزعة استقرارها، كما خروجها من الفعل المباشر ضد إيران نفسها، وبالتالي خروجها من الفعل وردّ الفعل إلى فضاء استراتيجي مثلّث:
الفضاء الأول: تحويل المملكة من قوة إلى حاجة اقتصادية للعالم، الأمر الذي تطلّب وضع رؤية اقتصادية شاملة، وهذا ما قام به الأمير محمد بن سلمان، والرؤية تعني التشريعات والخطط والمشاريع وجذب الاستثمارات…
الفضاء الثاني: الانتقال من التشدُّد المجتمعي إلى التراخي والانفتاح وتمكين النخب السعودية، وهذه السياسة ملازمة للخطوة الأولى المتصلة بجذب الاستثمارات وكبريات الشركات في العالم، لأنّ الانفتاح والتواصل والتفاعل يتطلب رفع منسوب الحرية الفردية، وهذا ما تحقّق أيضاً ويتحقّق بشكل مدروس وتصاعدي.
الفضاء الثالث: الشبك مع الدول الكبرى على أساس الأولوية الاقتصادية والتعامل معها على قاعدة المساواة، وليس تفصيلاً ان تستضيف المملكة في سنة واحدة قمة أميركية وأخرى صينية، وان تعقد عدة قمم ثنائية خليجية وعربية وأوروبية، الأمر الذي يُظهر دورها المحوري في محيطها أولاً وعلى المستوى الدولي ثانياً، وانتقالها من دولة نفطية فقط إلى دولة محورية في علاقاتها الخارجية.
وفي الوقت الذي تشهد المملكة تطوراً غير مسبوق على مستوى تركيبتها الدولتية والمجتمعية وعلاقاتها الدولية، تواجه إيران في المقابل ثلاثة مآزق كبرى:
المأزق الأول: انّ شريحة واسعة من المجتمع الإيراني أولويتها نمط عيشها وحرياتها وترفض البقاء معلّبة ضمن أيديولوجيا لا تؤمن بالفصل بين الإيمان وتحرُّر الإنسان وانفتاحه على الحداثة وثقافات العالم، والانتفاضة التي تشهدها إيران دلّت على أزمة عميقة في صلب النظام، والمعيار ليس في قمع الانتفاضة او استمرارها، لأنّ زمن انطلاق هذه الأيديولوجيا اختلف وتبدّل عن الزمن الحالي، وبالتالي النظام الإيراني أمام خيارين لا ثالث لهما: خيار مواصلة التشدُّد، وهذا الخيار يعني بالحد الأدنى استمرار الدولة البوليسية التي تقمع الناس وتشتبك معها ويُصبح استمرار النظام مربوطاً بآلة القمع وليس في تأييد الشعب، ويعني بالحد الأقصى انه في توقيت معيّن مع وصول ولي فقيه جديد او غيره سينهار النظام بالكامل.
والخيار الثاني هو الانفتاح وتغيير السياسات المعتمدة، وهذا يعني انتهاء ثورة العام 1979، فهذه الثورة طبيعتها عنفية وتشددية وانغلاقية وتوسعية وجماعية بمعنى انها لا تقيم وزناً للإنسان الفرد، وهذا النمط لا يمكن ان يستمر طويلا، ومجرّد ان يُحدِّث النظام نفسه يعني انتهاء الثورة.
المأزق الثاني: مالي واقتصادي نتيجة العقوبات من جهة، وفشل نموذجها الاقتصادي من جهة أخرى مع غياب الإصلاحات المطلوبة، وهذا المأزق ينعكس على أوضاع الشعب الإيراني الذي عليه ان يعيش وسط الفقر والقمع، كما ينعكس على الدول التي تشكل مداها السياسي الحيوي، حيث انها غير قادرة على مساعدة، مثلاً، حليفها النظام السوري الذي انزلق إلى أزمة مالية غير مسبوقة واستمرارها يمكن ان يقود إلى تغييرات جوهرية في بنية النظام، كما انها أعجز عن مساعدة ذراعها اللبناني الذي أصبح تحت ضغط الوضع المالي.
المأزق الثالث: يتعلّق بفشل سياستها الخارجية التي أوصَلتها إلى الحائط المسدود مع كل دول العالم، فلا هي نجحت في استمالة إدارة أميركية كانت وقّعت معها اتفاقاً نووياً نتائجه كانت كارثية على مستوى المنطقة، ولا استفادت من التفهُّم الأوروبي فأقحَمت نفسها في الحرب الأوكرانية في خطوة متهورة، وأقدمت على إعدام المسؤول السابق علي رضا أكبري غير عابئة بالتحذيرات البريطانية والفرنسية والأميركية، الأمر الذي سيُفاقم عزلتها والتشدُّد الدولي معها، وهذا عدا عن علاقتها المتوترة مع السعودية والدول الخليجية والعربية بسبب سياستها التوسعية المزعزعة للاستقرار، ولا يكاد يخلو بيان خليجي وعربي إلا ويذكِّر بالانتهاكات الإيرانية، وآخرها البيان الصادر عن وزيري خارجية الرياض والقاهرة لجهة «دعم الجهود العربية لِحث إيران على الالتزام بالمبادئ الدولية لعدم التدخل في شؤون الدول العربية، والمحافظة على مبادئ حسن الجوار وتجنيب المنطقة جميع الأنشطة المزعزعة للاستقرار، بما فيها دعم الميليشيات المسلحة، وتهديد الملاحة البحرية وخطوط التجارة الدولية».
وتكفي المقارنة بين التطور الاقتصادي في السعودية والتراجع الاقتصادي في إيران، الارتياح الشعبي في السعودية والغضب الشعبي في إيران، شبكة العلاقات السعودية الدولية والعزلة الإيرانية عن العالم. وبالتالي، تكفي هذه المقارنة للدلالة على انّ الحرب الباردة بين الرياض وطهران شارَفت على نهايتها لمصلحة الأولى طبعاً التي خرجت من المواجهة الكلاسيكية إلى استنساخ نموذج الحرب الباردة الدولية، فقدّمت نموذجاً عَجزت إيران عن اللحاق به، بل زاد تخبّطها في تفاقم أزماتها وتوسّعها وتعمّقها.
فإيران اليوم هي كالرجل المريض، أمس، المسمّى السلطنة العثمانية، وكالرجل المأزوم المسمّى الاتحاد السوفياتي، ونهاية هذا النموذج أصبحت حتمية بعد ان اصطدم بشعبه في الداخل وغير قادر على تطوير نفسه ولا الخروج من أزمته، واصطدم مع دول الجوار ومع دول وشعوب حاولَ نقل ثورته إليها فحوّلها إلى دول فاشلة وشعوب فقيرة، واصطدم مع كل دول العالم لعجزه عن التأقلم مع القوانين الدولية.
فالمسألة مسألة وقت لا أكثر، ومن انتظر كثيراً ينتظر قليلاً، لأن المنتصر هو القادر على تقديم النموذج الذي يُرضي شعبه ويساهم في تطوير بلده ويتحوّل إلى حاجة دولية، ويستحيل على اي دولة في العالم ان تعيش في عزلة عن هذا الكون، ومن لا يستطيع ان يتأقلم مع التطور والحداثة وان يندمج مع العصر مصيره الزوال وشأنه شأن إمبراطوريات وشعوب لم يبق منها سوى ما وَثّقه التاريخ عنها، لأنّ استمرارية اي شعب او نموذج تكمن في قدرته على التماهي والتآلف مع تطور الحياة البشرية، وهذا ما سيقود إلى انتصار المشروع السعودي وهزيمة المشروع الإيراني، الأمر الذي سيَستتبِع تحولات على مستوى المنطقة والمستفيد الأكبر منها الدول التي حوّلها النفوذ الإيراني إلى فاشلة فسوف تستعيد دورها وتألقها.