
صدر عن المونسنيور شادي بو حبيب، رئيس مدرسة مار يوسف – قرنة شهوان، ما يلي:
يطلّ علينا بعد أيام قليلة شهر أيلول، حاملاً معه هموم الأهل كما في مطلع كل عام دراسيّ جديد. فهُموم الأقساط المدرسيّة وما يتبعها من احتياجات ومستلزمات، تشكل تحدّياً كبيراً لعائلاتنا التي ترزح أصلاً تحت أعباء معيشيّة صعبة تفاقمت باطرادحتّى قبل أن تُسرق أموالنا و يُبدّد جنى أعمارنا في المصارف.ولعلّنا سنشاهد في القريب العاجل حلقاتٍ إذاعيّة وتلفزيونيّة ستتضمّن الكثير من الجولاتِ والتبجحات والمزايداتالثوروية أيضاً؛ حيث ستُصوّر الأمور فيها وكأن مصدر أزماتنا الوحيد هو المدارس وأقساطها، أو صناديق الدعم فيها، وهي قد وجدت أصلاً لسدّ احتياجات معلمين ومعلمات، يطالبون بالحدّ الأدنى للعيش الكريم وللاستمرار بمهنتهم التربويّة. كيف لا، وهم مؤمنون بأن رسالتهم هي العمود الفقري لمجتمع لا يملّ من التعلّم، ولا يتوانى فيالبحث عن الثقافة، ليبقى لبناننا وطناً ومهداً للقيم والحضارة.
ولعلّ بعضاً من أهلنا، وليس جميعهم طبعاً، سينسى أو سيتناسى عمداً، أن ما سيدفعونه من أقساط لتعليم أولادهم وتربيتهم،لايشكّل والحق يقال، إلّا القليل مقارنةبما أنفقوه خلال فصل الصيف ليتسنّى لأبنائهم عيش فترة “طبيعيّة” من الراحة والاسترخاء في المخيمات الصيفيّة ورحلات البحر أوحتى السفرخارج البلاد أو الكَيف في المطاعم والملاهي. ولست هنا بصدد التقليل من أهميّة ما نصبو إليه كأهل ليعيش أولادنا قسطاً من الراحة التي هي ضرورة تربوية وإنسانية وحقّ مقدّس لنا جميعاً. لكنه من الواجب أن نُنعش أيضاً ذاكرتنا القصيرة ولو لحين. فمن سكت أو من تغاضى عن الّذين نهبوا أموالنا ونهشوا أتعابنا،علّه سيرفع الآن الصوت عالياً بوجه المستحقات المدرسيّة الضاغطة في مجملها، والتي تستوجب تسديدها بالرغم من كل شيء لتأمين تعليم راقٍ، وللحصول على الكفايات المميزة التي عهدناها سابقاً في مؤسساتنا، ونحتاج إليها الآن أكثر من أي وقت مضى.
ولن يفوتنا كذلك، سماع صراخ منادين على منابر نقّالة متّهمين المدارس بالسرقة والمعلّمين بالجشع. والأرجح أننا سنرى لجاناً وتكتلاتٍ تتهم الكهنة والرهبان والراهبات بأنهم هُم سبب الأزمات أو على أقلّه، بأنهم يسرقون ما تبقّى من أتعاب أهلنا وجنى عمرهم.فيا ليتنا حرّكنا ساكناً يومسُلبت وما زالت تسلب منّا أبسط مقوّمات الحياة الكريمة في بلدٍ، أقل ما يقال في مسؤوليه، إنهم بلا مسؤوليّة. أجل، لقد بتنا نفجّر غضبنا على غير هدى وفي كل اتجاه، متجاهلين الأسباب الحقيقيّة لما نعانيه من أزمات وعذابات…
فلنفكر في حقائق الأمور ولنضعها إذاً بضمير صافٍ تحت أنظار الله، لنرى الحقيقة التي تحررنا من الأحكام المُسبقة فنتنبّه للحملات التي تطال بشكل أساسي المدارس الكاثوليكيّة أو تلك التابعة لمؤسسات كنسيّة عديدة. فلنتذكّر بداية أن الكثير من المؤسسات العلمانيّة باتت أقساطها أعلى بثلاث أو أربع مراتٍ من غيرها، ولنسأل حيال ذلك: هل المطلوبمن الكنيسة أن تفرض العمل بأبخس الأجور أو شبه مجان على معلميها؟ أو أن تترك هؤلاء وعائلاتهم يتمرمرون في الفاقة والعوز من دون تأمين أبسط مقوّمات الحياة الكريمة اللائقة بهم وهم من يؤدّون عملهم بضمير وتفانٍ؟ أم أنّ لا قيمة ولا تكلفة ولا ثمن للرقيّ والتقدّم بعد اليوم؟
يا أهلنا جميعاً ويا أيها المنادون بالشفافيّة والاحتراف، أليست المؤسسات التربوية هي مؤسسات للتطوّر والنهوض؟ ألعلّنا لم نتعلم بعدُ من كل ما عانيناه سابقاً ومن الظروف الخانقة التي مررنا فيها؟ ألا نخلط في كثيرٍ من الأحيان،وبسذاجة بالغة، بين المؤسسات التربوية من جهة، والمؤسسات الخيريّةوأعمال الرحمة والمساعدات التي لا تُعدّ ولا تُحصى- والتي تقدمها الكنيسة بتفانٍ ومن غير تردد – من جهة أخرى؟ بكل الأحوال، نحن على علم أنها أعمال توجب علينا ألّا نتكلّم عليها عَملاً بوصية الرب يسوع: “لا تعلم يمينك بما صنعت شمالك”.
أردنا من هذه المقالة البسيطة وقُبيل عامنا الدراسيّ، أن تكون نوعاً من صرخةٍ نبويّة متواضعة نابعة من معاناة المسؤولين عن المدارس والعاملين فيها وممّا تحمّلوه في السنوات الخمس الأخيرة. نحن لسنا دعاة جشع ولا عبدة مال، نحن في أساس تنشئتنا مواطنون مؤمنون نرغب في النهوض بمجتمعنا ليبقى منطلقاً للعِلم ومنفذاً لنشر روح الله. فنحن نسعى جاهدين، وبخوف ورِعدة، إلى أن نكون العمود الفقري في نشرالعلم والتعاليم الأخلاقية والسماويّة،وكم باتت ملحة في عصرنا!فمن خلال مناهجنا المتنوعة، نُعطي الطالب الغذاء الروحي “في حينه” عملاً بوصيّة السيد المسيح الذي سيُكافئنا إن أحسنّا وسيُطالبنا بحزم إن أخفقنا. نحن من أنشأ المدارس في لبنان، ونفخر بأن يكون المجمع الكنسيّ اللبناني أول من فرض إلزامية التعليم للجميع ليجعل من وطننا آيةً وقدوة للشرق والغرب معاً.قد تبدو صرختي ضرباً منالحماسة أو غير ذلك، أو ستتحول لا محالة إلى فرصة للجدل والأخذ والردّ، وهذا أمرٌ طبيعيٌ نحتاج إليه لنناقش ونفكر ونقيّم ونتقدم،لكن الحقيقة يجبُ أن تُعلن كما هي: فلنقفل مدارسنا إذا كانت هي سبب الأزمة أو سبب انهيار وطننا! فلنرجع بطلابنا إلى مدرسة “تحت السنديانة” بعيدًا عن مستلزمات التعليم ومنهجياته المتطوّرة! ألم تبدأ رسالتنا من هناك؟ فلنفعل هذا إذاً، ونحن على ثقة تامة بأننا سنتمكن حينها من تأمين كل ما هو بسيط وبدائيّ لتعليم أبنائنا وبناتنا من أينما أتَوا، وعلى مختلف مشاربهم وطوائفهم. إذّاك، لن يعاني أحد البتة في تأمين مستلزمات التعليم البدائية مجاناً، لأننا مجاناً أخذنا ومجاناً نعطي. أجل، فلتقفل مؤسساتنا التربوية ابوابها إذا كان هذا هو المطلوب، وليُترك للدولة أن تتحمّل مسؤولياتها وتؤديواجباتها بعدما تخلّت عنها أصلاً. ولنرَ أيّ مجتمعٍ وأي نهضةٍ وأيّ نتاجٍ ثقافيّ سنحصل عليه بعد الآن؛ ولنتبصّر أيضاً في ما سيؤول إليه مستوى طلّابنا العلمي والثقافي والأخلاقي، وإذا كنّا وإيّاهم قادرين بعد على مواكبة العِلم ومتطلبات جامعاته وصروحه الأكاديميّة في لبنان والخارج. لقد رُوضّنا و يا للأسف لنسكُتَ عن كل شيء، عن أموالنا المنهوبة، عن أداء مؤسساتنا الرسميّة السائبة، عن غلاء فواتير الكهرباء والماء والمولّدات والهاتف ولقمة عيشنا،كما عن قيمنا المجتمعية أيضاً، وغدونا نتجاسر فقط، ويا للمفارقة هنا، بوجه مدارسنا وهي التي ائتمنّاها على أقدس وأغلى مالدينا..ألا يجدر بنا حيال ذلك كله أن نتساءل إن لم تكن مدارسنا مستهدفة في رسالتها، وفي جودة أدائها؟! إن صمود المدرسة الكاثوليكية وما تمثّله، هو آخر خطوط المواجهة في هذا الزمن الرديء. فإن كان المطلوب إسقاطها، وإن كان هذا هو مرادنا، فما علينا إلا أن نقفل أبوابها ونتخلّى عن رسالتنا التربوية ودورنا التعليمي وريادتنا الثقافية، وأن نكتفي بتحويل دُور العبادة عندنا إلى حلقات تعليم سطحيّ غير مُكلِف، فنعيد ضبط الساعة مئةَ سنةٍ إلى الوراء. وأنا على يقين بأننا سنُفلح في ذلك بامتياز، لأن بولس الرسول يعلّم أننا قادرون على تحقيق رسالتنا في الظروف كافة “كفقراء لا شيء لنا ونحن نُغني الكثيرين”.
أيها الأحباء من أهل وإخوة وأخوات، إن كانت هذه هي حقاً رغبة شعبنا، فلنتقوقع كأقزام صغارٍ صغارداخل كنائسنا وأديارنا، ولنتخلَّ عن رياديِتنا الثقافية وتميّزنا العلميّ والحضاريّ، وليكن لنا ذلك! ولكنإلى أين سيؤول بنا هذا التقوقع وهذه القزمية العلمية والثقافية؟ دعونا نفكر برويّة ونتساءل بمحبة وصراحة: هل سنسلممن محكمة التاريخ ودينونة الزمن؟ هل سيرحم التخلّف أبناءنا؟أولن يكون خرابنا وخرابهم عظيماً؟ فلنفكر ملياً وتكراراً! فلنفكر قبل فوات الأوان! وإنّي على ثقة تامة، بأنّه ما من أحدٍ بيننا يريد العودة بأبنائه وبناتهإلى الوراء. وليس من شِيَم شعبنا أو شيمنا أن نتبنّى التقهقر أوالتراجع. فإن سقطت المدرسةالكاثوليكية، سنسقط معها جميعاً. وإن لفظ التعليم أنفاسه وتوقفتأجراس المدارس عن الرنين، ستدقّ بدلاً عنها أجراس موت أرضنا وهويتنا… فتكون حينها النهاية.
ختاماً، أعرف حق المعرفة كمسؤول وكربّ عائلة، أن التضحيات جمّة أيها الأحباء، لا بل تصل بنا أحياناً إلى حدود الألم، لكننا إن تعملقنا عليها وتعاونا يدا بيد، سنتجاوز المحنة ونخلص. وإني بايماني ورجائي المسيحيّ، على يقين من ذلك