Uncategorized

الفراغ (4)

بالنظام زياد شبيب / النهار 26-01-2024

 

 

 

ليست الأزمة السياسية الحالية نتيجة للشغور في منصب رئاسة الجمهورية بل إن هذا الشغور هو نتيجة للأزمة. وهذه الأخيرة هي أزمة عميقة تتصل بطبيعة النظام السياسي القائم الذي يولّد الأزمات المتكررة عند كل مفصل ويعود إلى العمل بصورة مؤقتة في أوقات التسويات التي بطبيعتها تكون مؤقتة والتي لا تنفك تنتهي مدة صلاحيتها مع التبدلات التي تحصل في موازين القوى الداخلية والخارجية.

 

انعقد مجلس النواب على مدى يومين لمناقشة وإقرار الموازنة العامة وانشغل المتابعون بالمداخلات والمساجلات وفي تظهير المواقف وتبرير المشاركة في تكريس منطق “تشريع الضرورة”، بدل الانكباب على انتخاب الرئيس وإعادة تكوين المؤسسات بما ينطبق عليه قول السيّد: مرتا مرتا إنك تهتمين بأمور كثيرة إنّما الحاجة إلى واحد…

 

بالتزامن وبالقدر نفسه انشغل المتابعون بأخبار اللجنة الخماسية وبانعقاد سفراء الدول المكوّنة لها وبالزخم الجديد الذي يتخذه نشاطها وبالتساؤلات حول انضمام إيران طرفًا سادسًا وشرطًا لكي تكون جهود الدول الخمسة مثمرة وقادرة على إنتاج رئيس ل#لبنان، وكأنّ اللجنة المذكورة وديناميات عمل دولها هي من يتولّى تكوين السلطات الدستورية في لبنان بتسليم كامل ممّن انتخبهم اللبنانيون لهذه الغاية.

 

هذا يدلّ على أن أزمة النظام السياسي ليست ذات طبيعة حقوقية ولا تجد سببها في الدستور بذاته أو في تفسير نصوصه التي غالبًا ما تكون موضع خلاف أو مخالفة على يد من يتولّون التطبيق (أو عدم التطبيق أو التعطيل) بهدف تسخير النصوص الدستورية في الصراعات على النفوذ. أي أن القوى الحاكمة تطبع الحياة الدستورية بطابعها وتعطي نصوص الدستور معانٍ غير معانيه ومقاصده الحقيقية. وبنتيجة هذا المزيج بين القوى السياسية وأدائها والسوابق والتشوهات المتراكمة في المفاهيم والمبادئ يتكوّن ما يمكن أن يسمّى النظام السياسي. فالمشكلة ليست في النصوص وعلى عكس ما يظن كثيرون أو ما يقول آخرون، لا يحتاج لبنان إلى دستور أفضل من دستوره الحالي لأجل انتظام حياته العامة، بل يحتاج إلى من يُحسنون التطبيق وهذا يبدأ بانتظام هؤلاء تحت سقفه والخضوع لأحكامه.

 

إن التعبير البديهي الأول عن الخضوع للدستور هو الولاء للوطن، وغياب هذا الولاء تشترك فيه القوى القائمة وإن لم تكن تتساوى في درجة الخضوع والارتهان للقوى الخارجية. وأحد مظاهر هذا المرض والدلائل على عمق تحكمه بالقوى المذكورة هو الرجاء المعلق حاليًا على اتفاق عدد من الدول على رئيس للبنان رغم أن انتخابه يتم في مجلس النواب بعملية بسيطة واضحة وفق الدستور.

 

الغريب أن أيًا من القوى الحاكمة الممثلة تمثيلًا مهمًا في مجلس النواب لا يعترض على الدور الخارجي بالمطلق بل يتباهى هؤلاء باستقبال الموفدين وبدرجات الاهتمام التي يعطونها لمواقفهم من العملية الدستورية. والاعتراض في هذا المضمار يقتصر على انتقاد تدخّل الدول الخارجية الداعمة أو الراعية للفريق الداخلي المنافس للفريق المنتقد، على قاعدة أن كلًا منهم يرى القشّة التي في عين الآخرين ولا يرى الخشبة التي في عينه.

 

براعة رئيس المجلس النيابي نبيه برّي المتجدّدة في الإمساك بخيوط اللعبة من خلال مطرقة المجلس ومفتاح قاعته العامة المدخل الوحيد لصناعة الرئيس، ونجاحه في إخضاع الآخرين للدور الذي يقرّره هو للمجلس النيابي بانتظار التسوية، سوف يسجلهما التاريخ في “عهده” الذي مرّت فيه “عهود رئاسية”. ولأنّ التاريخ حين يُكتب سوف لن يتبنّى التفسيرات الحالية لنصوص الدستور بل سيعتمد معانيه الحقيقية فإنّ الحاجة ستكون إلى جرعة إصلاحية دستورية كبيرة قريبة حين تسنح الفرصة، لعلها تكون بالمباشرة بتطبيق المادة 95 من الدستور تحقيقًا لغايتها الحقيقية.

 

 

https://www.annahar.com/arabic/authors/302711/%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%BA-4

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى