تحليل السياسات

خمس قواعد المستقبل لبنان

كتب شارل جبور في الجمهورية

بعيداً من لغة التخوين والاتهامات لا بدّ دائماً من مراجعات سياسية لواقع الحال في لبنان، حتى إذا كانت لن تُفضي إلى التغيير المنشود الذي يتطلّب تحولات وتبدلات في موازين القوى الداخلية والخارجية.

الخلاف بين اللبنانيين قديم وقد يكون الثابت الوحيد في ظل متغيّرات ترتبط بأحداث كل مرحلة وعناوينها، وكان هذا الخلاف، وما زال، يأخذ، ويا للأسف، طابع التخوين، ودعوة مثلاً المخوِّن للمخَوَّن إلى مغادرة لبنان أقوى دليل على ذلك، والسبب ان المخوِّن يريد هذا اللبنان على حجمه وقياسه وتفكيره، وهذا خطأ وخطيئة تستدعي الإضاءة على خمس قواعد أساسية كل الأمل ان تفتح باب النقاش المفيد:

القاعدة الأولى، لبنان لجميع اللبنانيين: لا يوجد لبناني أقل لبنانية من الآخر، ومقولة الانتماء والولاء للقضية اللبنانية بحاجة إلى مراجعة، لأن الانتماء هو فكري والولاء هو لفكرة وهناك من هو لبناني ولكنه يبدّي قضايا أخرى على لبنان انطلاقاً من خلفيته الدينية أو الفكرية او العقائدية، ولا يصحّ إلزامه بالقضية اللبنانية، ولا يصحّ بالقدر نفسه إلزام المؤمن بلبنان أولاً بفلسطين أولاً أو سوريا أولاً أو إيران أولاً (…).

 

القاعدة الثانية، حروب الآخرين: لقد حان الوقت للتخلُّص من المقولة الكارثية القائلة بحروب الآخرين في لبنان كونها ساهمت وتساهم في البقاء في مستنقع الأزمات المتوالدة والمستمرة، لأنه لو كان هناك توافق بين اللبنانيين على القضايا الأساسية لَما تَسلّل الخارج إلى الداخل اللبناني، ولكانت أزمات المنطقة قد فشلت في عبور الحدود اللبنانية.

وليس المقصود إطلاقاً إدانة أصحاب هذه المقولة ونياتهم الإيجابية في محاولة لردم الهوة بين اللبنانيين، ولكن الإقرار بالوقائع يساهم في حل الأزمة اللبنانية العميقة بدلاً من القفز فوقها الذي يؤدي إلى استمرارها وتعميقها، والحقيقة انه لولا وجود فئة لبنانية اعتبرت المقاومة الفلسطينية هي جيشها في لبنان، لما نجحت هذه المقاومة من التغلغل في النسيج اللبناني وإسقاط الدولة اللبنانية، ولولا وجود فئة لبنانية اعتبرت وجود الجيش السوري بالوجود الأخوي لا الاحتلالي، وإن هذا الجيش موجوداً في بلده الثاني لما تمكّن نظام الأسد من حكم لبنان، ولولا وجود فئة تعتبر نفسها جزءاً لا يتجزأ من المشروع الإيراني الثوري التمددي لما نجحت إيران بأن يكون لها موطئ قدم في لبنان. وبالتالي، المشكلة لبنانية بامتياز، وأيّ كلام آخر يساهم عن حسن او سوء نية في مفاقمة الأزمة اللبنانية.

 

القاعدة الثالثة، المنطق الديكتاتوري: على رغم الطابع الديموقراطي للبنان، وقد شكّل هذا البلد فعلاً مساحة حرية مختلفة عن دول المنطقة، إلا أنه نشأ على فكر مركزي ديكتاتوري: المسيحيون أرادوا أن يجسِّد لبنان منطلقاتهم الفكرية: نهائية الكيان، سيادته، حياده، تعدديته، الأمر الذي تنافى ويتنافى مع المنطلقات الفكرية للمسلمين الذين أرادوا لبنان جزءاً من قومية عربية أو أمة إسلامية أو ولاية من ولايات الفقيه، ومن يشكّل اليوم جزءاً لا يتجزأ من المحور الإيراني يريد بقوة الأمر الواقع ان يفرض على اللبنانيين، جميع اللبنانيين، منطلقاته الفكرية والعقائدية.

 

وفي حال لم يتم التخلّص من هذا المنطق الديكتاتوري المهيمن، فإنّ لبنان سيبقى في دوامة الأزمات المفتوحة والمتنقلة من جماعة مهيمنة إلى جماعة مهيمنة، ولو كانت هذه الأفكار مجرّد أفكار لا تؤثر على استقرار لبنان وطبيعة عيش اللبنانيين لَما كان هناك من حاجة وجودية لإعادة النظر بتركيبة البلد السياسية، ولكن من يرفض مثلاً حياد لبنان ويعمل على إلحاقه بالقوة بمشاريع خارجية، ومن يؤيّد الثورة الإيرانية ويحوِّل الأرض اللبنانية إلى مسرح من مسارح هذه الثورة، ومن يؤمن بأن تحقيق مشروعه يتطلّب وضع يده على الدولة وإخضاع جميع اللبنانيين، وبالتالي هذه الأمثلة وغيرها الكثير تعني استحالة التفكير بمنطلقات دولة واستقرار وازدهار مع هذه الفئة من الناس.

 

القاعدة الرابعة، المنطق التسووي: التسويات كالحوار قيمة إنسانية مطلقة، والحياة البشرية قائمة على التسويات، ولكن من الضروري التمييز بين التسويات الأساسية التي تحصل مبدئياً لمرة واحدة، والتسويات اليومية في المسائل كلها، وعندما تفشل التسويات في القضايا الأساسية والمصيرية على مدى عقود وسنوات فمن الخطيئة مواصلة البحث والسعي عن هذه التسويات التي لن تبصر النور.

 

وما المقصود بالتسويات الأساسية والتسويات الاستحقاقية (ربطاً بالاستحقاقات)؟ الاتفاق على نهائية لبنان وسيادته وحياده واستقراره وتعدديته ودولته وان تكون السيادة بحماية مرجعية الشرعية من دون أي ازدواجية تحت اي مسمّى. وبالتالي، هذه العناوين وغيرها تعتبر من القضايا التي تندرج تحت باب التسويات النهائية غير الخاضعة للمراجعة، فيما هذه القضايا بالذات ما زالت منذ تأسيس الكيان اللبناني موضع خلاف جوهري، وهذا يعني ان الحل الدستوري للدولة منذ ميثاق العام 1943 إلى اتفاق الطائف لم يعالج هذا الخلاف ويستدعي إعادة النظر بشكل النظام، فيما التسويات اليومية الاستحقاقية ترتبط مباشرة بدور الدولة التنفيذي الذي يتطلّب السعي الدائم لمعالجة التباينات من منطلق تسويات تخدم مسار الدولة والإنسان بعيداً عن سياسة التعطيل.

 

فهل يُعقل مثلاً مواصلة الرهان على تسوية بين «حزب الله» وأخصامه بعد 19 عاما على فشل التسويات كلها وإصرار الحزب على سلاحه ومنطقه وعدم استعداده لتسليم هذا السلاح وفك ارتباط لبنان بإيران؟

 

القاعدة الخامسة، التحرير: لا نتحدّث عن إسرائيل التي هي بتصنيف الدولة اللبنانية عدو ولا يوجد بيئات لبنانية حاضنة للمشروع الإسرائيلي، ولكن الحديث هو عن تحرير لبنان في الحرب من المقاومة الفلسطينية في الوقت الذي كانت تعتبر فيه فئة لبنانية وازنة انّ هذه المقاومة تشكل جزءاً من وجدانها وفكرها، أو تحرير لبنان من الجيش السوري في الوقت الذي كانت تعتبر فيه فئة لبنانية عن قناعة بأنّ عاصمة لبنان الفعلية هي دمشق، وانّ عروبة لبنان مدخلها سوريا، وان الشعب اللبناني والشعب السوري هما شعب واحد في دولتين ويجب ان تتحول إلى دولة واحدة، أو تحرير لبنان من الاحتلال الإيراني في الوقت الذي تعتبر فيه فئة لبنانية انها جزء من سلطنة إيرانية، وتعلن جَهاراً انّ مالها وسلاحها ومرجعيتها هي إيران.

فمن يرى انّ المقاومة الفلسطينية في لبنان هي في أرضها من حقه ان يحتضنها في مناطقه حصراً، ومن يرى انّ الجيش السوري في بلده الثاني فعليه ان يحتضنه في مناطقه حصراً، ومن يرى انّ لبنان جزءاً من محور إيراني فعليه ان يحتضن الثورة الإيرانية في مناطقه حصراً. ولكن ليس من حق اي فريق أن يُهيمن على مناطق من يرفض هذا المنطق، وبالتالي الهيمنة على لبنان كله مرفوضة.

 

وما يستدعي الإشارة والتركيز، هو انّ كل من يتحدّث عن الولاء والانتماء وحروب الآخرين والتسويات والتحرير يساهم عن حسن أو سوء نية في تَسييد المنطق الديكتاتوري وتمديد الأزمة اللبنانية الوجودية ومنح الفريق المتحكِّم بقرار البلد السيادي الفرصة لمزيدٍ من التحكُّم وإلغاء التعددية وصولاً إلى حكم لبنان بالمطلق.

 

ومن الضروري قبل فوات الأوان الانتقال من التكاذب إلى التصارح بأنّ تجربة إنشاء دولة تعددية فشلت فشلاً ذريعاً، وان الجماعات اللبنانية عاجزة عن التوافق على أساسيات تعتبر بديهيات من قبيل نهائية الكيان واستقلاله وسيادته وحياده وأولويته، والمصارحة تشكل المدخل الوحيد للإنقاذ، ومن يرفض هذه المصارحة ويخوِّنها يُضمر في أعماق تفكيره مشروع تغيير هوية لبنان تحقيقاً لأهدافه بالسيطرة على لبنان وإخضاع مَن فيه.

 

فالوحدة اللبنانية جُرِّبت على مدى قرن وأكثر وفشلت، والإصرار على المحاولة يخدم الفريق الذي يرى بلبنان مساحة من محور لا وطناً نهائياً ولا دولة، ومن الواجب الإقلاع عن هذه المحاولات والبحث عن حلول انفصالية لا وحدوية، لأنّ المهم في هذه الحياة ليس الوحدة ولا الانفصال، إنما المهم فقط لا غير هو ان يعيش الانسان قناعاته وحريته وأمنه واستقراره وازدهاره، والثابت في حياة اللبنانيين منذ نصف قرن في أقل تقدير هو الحرب والفوضى والموت والهجرة والفشل والمأساة بسبب وحدة إلغائية للتعدُّد وتدميرية للدولة وقمعية وإذلالية وإخضاعية للإنسان، الأمر الذي يتطلّب إعادة نظر جذرية بتركيبة لبنان السياسية والدستورية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى