كتبت بولين فاضل في “الأنباء الإلكترونية”: ليس غريبا أبدا على اللبنانيين تلقف أي لحظة أو مناسبة وتحويلها إلى احتفالية فرح، ولو كان جوهرها لا يشي بالغبطة على الإطلاق، واليكم نموذج هو اليوم «على الموضة» كثيرا في المجتمع الشبابي الذي ينوء تحت وطأة الهجرة..
موضة هذا الصيف لدى الشباب في لبنان تحمل بالإنجليزية تسمية «Farewell» (تميل هذه الفئة العمرية إلى التسميات الأجنبية)، وتعني بالعربية «الوداع». ويتداول المراهقون والشباب هذا التعبير لتنظيم حفلة وداعية لأحد رفاقهم الذي حزم أمره وحقائبه، وهو على أهبة الرحيل عن البلد بدافع إكمال الدراسة في الخارج أو حتى العمل.
بنفسه، يدعو «المغترب المقبل» الأصدقاء إلى سهرة الوداع في أحد المقاهي، أو الأصدقاء أنفسهم يتداعون ويعدون له سهرة مفاجئة ليقولوا له «وداعا». وفي الحالتين، مرح صاخب يعيشه الرفاق قبل أن تقلص الغربة عددهم وتسرق منهم وجها أو أكثر.
في المقلب الآخر لاحتفالية الفرح هذه، مشهد درامي بامتياز بات مألوفا جدا في بهو المغادرين في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت. أهل في وداع فلذات الأكباد، شباب بعضهم بالكاد في الثامنة عشرة، يتجاهلون طراوة العود ليواجهوا قساوة الاستقلالية الحديثة بعيدا من جناحي الأهل والوطن.
شباب يميل أهلهم إلى تحميل السلطات السياسية المتعاقبة وزر «تهجيرهم» من لبنان إلى أي شاطئ أمان وأمن واستقرار. فالبلد ضاق بجيل شاب أقل طموحاته العيش في بلد «طبيعي» بأوضاعه ومؤسساته، ويوفر فرص عمل برواتب تسمح بالتأسيس للمستقبل.
ماريا نعمة هي نموذج المرأة اللبنانية التي يعيش نصفها الآخر (الزوج يعمل منذ نحو أكثر من سنتين في السعودية) في الخارج بحكم ضيق الآفاق، فيما يستعد نجلها البكر ريكاردو (18 سنة) للسفر بعد أيام إلى مدينة لوزان في سويسرا للتخصص في الهندسة قبل الانخراط في سوق العمل. ماريا ستبقى وحيدة في لبنان مع نجلها الأصغر. وقالت لـ«الأنباء»: «فكرة متابعة التحصيل العلمي راودت ريكاردو منذ زمن، وقد شجعناه كأهل ولم نمانع لأننا كلبنانيين تلقينا الكثير من الصفعات في هذا البلد وعايشنا خضاته وأزماته المتعاقبة من فترة إلى أخرى».
وأكدت أن الخشية من تأزم أكبر للأوضاع الحالية في لبنان تجعلها لا تصدق متى يأتي موعد 26 من أغسطس، ليغادر ريكاردو بخير وسلامة ويقيم في بلد الأمان سويسرا، «حيث لا يكون تركيزه سوى على دراسته من دون أن يعيش أجواء الحرب وطبولها».
وتقول ماريا التي تفكر اليوم بعقلها إن قلبها كأم لا يزال جانبا، إلى أن يفرغ البيت من الزوج والابن معا. وتضيف: «في كل مرة يأتي زوجي إلى لبنان ثم يغادر إلى مقر عمله، أشعر وكأنه الوداع الأول. ومع مغادرة ريكاردو، سيكون الأمر أصعب علي وعلى ابني الصغير».
وبلغة الأرقام عن المد المتعاظم للهجرة من لبنان، تحدث لـ «الأنباء» محمد شمس الدين الباحث في «الدولية للمعلومات» (شركة متخصصة في الدراسات والأبحاث والإحصاءات)، فقال: «هجرة اللبنانيين ولاسيما الشباب منهم، تعود إلى مرحلة قديمة في الزمن، لكنها ازدادت في السنوات الأربع الأخيرة نتيجة الأزمة الاقتصادية والمالية التي حلت بلبنان».
وأشار إلى أنه «في العام الماضي وصل عدد الذين هاجروا إلى 182 الفا، من بينهم 130 الفا من الفئة الشبابية التي يتراوح عمرها بين 25 و35 سنة، وكان أعلى رقم يسجل في تاريخ الهجرة اللبنانية، وكانت الأزمة الاقتصادية هي السبب».
وعما إذا كان هذا العدد قد ارتفع في أعقاب حرب غزة والجنوب اللبناني، أوضح شمس الدين أنه لا يمكن له أن يقدر اليوم العدد الذي هاجر نتيجة الحرب، «بل يجب الانتظار حتى أكتوبر ونوفمبر لإعطاء أرقام دقيقة، لكن الأكيد أن الرقم أعلى من السنة الماضية، ويمكن أن يتجاوز عدد الذين هاجروا هذه السنة الـ 200 الف ليصل إلى 250 الفا».
وبحسب شمس الدين، فإن «الوجه الإيجابي للهجرة هو التحويلات المالية المرتفعة ممن هم في الخارج إلى الأهل في لبنان، والتي يقدرها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بنحو 6 إلى 7 مليارات دولار سنويا، وقد يكون هذا الرقم مضاعفا. وهذه تحويلات توفر حاليا الحاجات لأكثر من مليون لبناني، ولكن على المدى البعيد ستؤدي هذه الوتيرة من الهجرة الشبابية إلى جعل المقيمين في لبنان مقتصرين على فئة المتقدمين في العمر والعاجزين عن القيام بالأعمال الأساسية التي يتطلبها المجتمع والحياة والدولة، مثل الزراعة والنقل والبناء، الأمر الذي سيحتم زيادة الحاجة إلى العمالة الأجنبية».
الدم الشبابي في عروق لبنان في نزيف مستمر ينذر بمضاعفات، والخشية الأكبر هي أن يتحول لبنان الفارغ في أكثر مؤسساته إلى مجتمع هرم وفارغ من شبابه، وهذا ما قد يدفع مستقبلا إلى القول بحسرة: «ليت الشباب يعودون يوما