تخفي الدولة، بقرار من أعلى المستويات، داتا المدارس عن العموم والمتخصصين بالشأن التربوي، لكونها تكشف معطيات هامة عن أعداد المقيمين في لبنان وطوائفهم وأوضاعهم الاجتماعية. وسبق أن تطرّقنا، في مقالات سابقة، إلى تناقص أعداد اللبنانيين المقيمين، انطلاقاً من النشرات الإحصائية للمركز التربوي للبحوث والإنماء، والرابط بين الوضع الاجتماعي والتسرب المدرسي، في غياب دراسات إحصائية للسكان وأوضاعهم منذ عقود.ونشر أحد المواقع الإلكترونية أخيراً تقريراً عن المرشحين الناجحين في الدورة الثانية للامتحانات الرسمية المهنية لعام 2023، يتضمن اسم المرشح ومحل وتاريخ الولادة، واسم المعهد المهني الذي ينتمي إليه، والاختصاص الذي يدرسه. وقد بلغ عدد الناجحين 1874 طالباً في كل الشهادات من البريفيه المهنية حتى الإجازة الفنية.
وانطلاقاً من أسماء المرشحين ومكان ولادتهم ومعاهدهم، وفي محاولة لتقدير نسبة المسلمين والمسيحيين من مجموع المقيمين، يتبيّن لنا أن عدد التلامذة المرشحين المسيحيين بلغ 15.7% من مجموع المرشحين للشهادات كافة، وهي نسبة تعكس إلى حد بعيد نسبة المسيحيين المقيمين في لبنان.
وللتأكد من الأمر، عدنا إلى النشرة الإحصائية للمركز التربوي للبحوث والإنماء لعام 2023، فتبيّن أن هناك ما يقارب مليون تلميذ التحقوا بالمدارس الرسمية والخاصة، منهم 890 ألف لبناني. ولأن المسيحيين عموماً لا يلتحقون بالمدارس الإسلامية (إلا في ما ندر) ويتركز التحاقهم بالمدارس الخاصة الكاثوليكية والإنجيلية والأرثوذكسية وتلك التابعة للبعثات الأجنبية والعلمانية والمدارس الإفرادية، وقلة منهم تلتحق بالمدارس الرسمية، فيما يلتحق المسلمون في المقابل بالمدارس الخاصة الإسلامية والمسيحية والعلمانية والأجنبية والرسمية.
وفي أحد تصريحاته، يقول الأمين العام للمدارس الكاثوليكية، يوسف نصر، إن المدارس الكاثوليكية تضم نحو 200 ألف تلميذ، والإنجيلية نحو 20 ألفاً، والأرثوذكسية نحو 8 آلاف، والمدارس العلمانية والبعثات نحو 15 ألفاً، ليصبح مجموع الملتحقين بهذه المدارس 250 ألف تلميذ، مع الإشارة إلى أن الملتحقين هم من الطوائف المسيحية والإسلامية معاً، مع غلبة للمسيحيين في المدارس في بعض المناطق المسيحية. وقد تصل نسب الملتحقين من المسلمين بهذه المدارس إلى أكثر من 80% بحسب المناطق، مثل طرابلس والنبطية والبقاع وبعض مناطق بيروت وضواحيها. أما في المتن وكسروان وجبيل وزغرتا وبشري، فيمكن القول إن الملتحقين بشكل أساسي هم من المسيحيين. وفي المدارس الرسمية، تتجاوز نسبة الملتحقين المسلمين 80%، ويضاهي عددهم 200 ألف تلميذ من اللبنانيين من أصل 260 ألفاً.
في المحصّلة، لا يتعدى عدد المسيحيين اللبنانيين الملتحقين بالتعليم الخاص 150 ألفاً، يضاف إليهم الملتحقون بالتعليم الرسمي الذين يبلغ عددهم نحو 50 ألفاً في أفضل الأحوال، أي إن مجموع التلامذة المسيحيين لا يمثّل أكثر من 20% من مجمل التلامذة في لبنان، كما تمثّل نسبة 15.7% في التعليم المهني مؤشراً إضافياً إلى نسبة المسيحيين المقيمين.
بطبيعة الحال، لا يمكن تأكيد نسبة المسيحيين المقيمين بدقة، وهي تُراوِح بين 16% و20%. فالداتا الكاملة مُخفاة خشية انكشاف النسب، ما يترك آثاراً على الكيان اللبناني، ومبدأَي المحاصصة والمناصفة اللذين يتمسك بهما مختلف الأطراف السياسية، علماً أن أعداد التلامذة المتسربين من المدارس غير مشمولة بهذه النسب، إذ تصل هذه الأعداد لعمر تحت 16 عاماً إلى عشرات الآلاف، ويتوزعون في أكثر المناطق فقراً وبين الفئات الأكثر هشاشة مثل طرابلس وعكار وبعلبك وجزين، ومناطق أخرى من البقاع، والغالبية الساحقة من المسلمين هي من الفئات الهشّة، ما قد يقلّص نسب المسيحيين عند إضافتهم إلى أقرانهم من الفئات العمرية تحت 18 عاماً.
هذه المؤشرات يعلم بها القادة السياسيون وكبار رجال الدين، لكنّ الدولة تظهر أرقاماً مغايرة كل أربع سنوات في لوائح الشطب التي تشير إلى تعادل في النسب بين الطوائف الكبرى الثلاث، علماً أن قسماً كبيراً منهم غير مقيم في لبنان، ليس بسبب الأزمة فحسب، بل هم مهاجرون مع عائلاتهم منذ سنوات طويلة. فإحصاء 1932 قدّر نسب المسيحيين بـ 58.7% وتراجعت النسب إلى 30.6% استناداً إلى لوائح شطب 2018 بحسب «الدولية للمعلومات»، فيما داتا التعليم تشير إلى أن نسبة المقيمين في لبنان من الطوائف المسيحية لا تتعدى 20% من السكان.
مع هذه النسب، نلحظ تعثراً في التعيينات في قطاعات الدولة المختلفة، بسبب عدم تقدم المسيحيين إليها بما يعادل الحاجة والتوزيع الطائفي، فتتعطل في غالبيتها، علماً أن المناصفة المعمول بها بعد الاستقلال والطائف لم تعد عادلة ولا منصفة بحق باقي المتقدّمين، وكان البديل التعاقد المحرر من أي محاصصة ولا سيما في التعليم والإدارات العامة.
تنكر القيادات الروحية والسياسية المسيحية هذه النسب وتصر على نظام المناصفة، تارة باسم الدستور وأخرى باسم حقوق المسيحيين أو الوجود المسيحي، أو التاريخ التأسيسي ودور المسيحيين في إنشاء لبنان الكبير.
الخلاصة أن مكابرة هذه القيادات أدّت إلى تهجير المسيحيين وتقلّص نسبهم بسبب شوفينيتها وتعنّتها بعد الطائف بخطاب «حماية حقوق المسيحيين والوجود المسيحي»، وتمسكها بالمناصفة، بينما لا يمثّل المسيحيون في الواقع خمس السكان المقيمين، ما يجعل الكيان القائم مهتزاً وغير مستقر، ويمعن في خلق أعذار وتبريرات لتسيير شؤون الدولة، كون الطائف في جوهره لا يزال يحمي المناصفة.
لا يمكن أن تستمر هذه المناصفة إلى ما لا نهاية، فالمتوقع أن يتزايد عدد المسلمين في السنوات العشر المقبلة أضعاف الزيادة لدى المسيحيين، وأن تتزايد هجرة الأخيرين، وقد تصل النسب إلى 10% مقابل 90% للمسلمين، لأن سياسة النعامة التي تعتمدها القيادات الروحية والسياسية المسيحية لا تريد تغيير معادلة «حماية حقوق المسيحيين»، بينما هي من تقضي على وجود المسيحيين في لبنان.
الخيار الأمثل للمسيحيين لحماية وجودهم هو إلغاء الطائفية السياسية وخيار الدولة المدنية العلمانية التي تحمي كل المواطنين. فالمسيحيون تحوّلوا إلى أقلية، ولن تسعفهم حملات تجنيس جديدة لزيادة أعدادهم كما حصل مع الأرمن ومسيحيي فلسطين.
الأجدى لهذه القيادات إعادة تقييم سياستها ونتائجها والتواضع والواقعية للوصول إلى دولة مدنية علمانية شبيهة بفكرة المطران غريغوار حداد للحفاظ على هذا الوجود وتعزيزه، طالما الشركاء الآخرون لم يضق بهم الذرع بعد، ويحمون هذا الوجود ويعون ضرورته للنهوض بلبنان وتنوعه.