يوقعنا مطلب وخطاب النهضة حاليا في أوهام كبيرة، فالنهضة في ذهن المثقف العربي مبنية على معطى بالغ الخطورة، وهو” الالتفات” يمينا وشمالا، بحثا عن النموذج.
وجوابي على هذه الوضعية، هو أن النهضة نتيجة وليست مقدمة. لا تصنع المفاهيم للتعامل بها مع الواقع، فإن حركة الواقع هي من تمنحك المفاهيم المناسبة.
كان كثير ممن تصدوا منذ أكثر من قرنين لإصلاح الثقافة العربية، إنما يقومون بإصلاح تاريخها، لا حاضرها ومستقبلها. والذين انتقدوا الماضي والمذاهب والرموز والمواقف، ونادوا بفك الارتباط معها، إنما كانوا يمارسون إصلاحا افتراضيا لماضي الثقافة لا حاضرها. وفي الطرف المقابل كان الذين انتصروا لكل ذلك الماضي، يدافعون أيضا عن ماضي الثقافة لا حاضرها. وقام كلا الاتجاهين بنقل الإصلاحات إلى الماضي.
وتكشف سجلّات وسجالات اتجاهات الإصلاح الثقافي العربي، أنها كانت تتمحور ضمن مجال متخيل في أكثر الأحوال. وبسبب ضعف إدراك قانون” تسارع التاريخ” ووتيرة الإصلاح وسرعته المطلوبة، اعتقد الكثيرون خطأ أن الإصلاح ملف مفتوح في كل الأوقات.
خريطة الفشل
لابد من تحديد بعض صور الفشل الثقافي منذ القرن التاسع عشر. فشل يمكن ملاحظته في ضعف فاعلية الثقافة العربية في المشهد العالمي، وتواضع قدرات مكوناتها على مواجهة أزمات المنطقة.
وقد تأكد هذا الفشل عندما قررت النخب العربية الانقسام على قاعدة أفكار ومفاهيم، لم تكن يوما هي من أنجزتها.
ولنعترف أن تغيرا في القيم قد حدث لدى أجزاء من النخب، لا مجرد تغير في القناعات الفكرية. فالحالة النفسية والموقف القيمي يسبقان الاختيارات الثقافية. القبول والرفض ليسا موقفين ثقافيين فحسب، بل نزعات شعورية وقيمية.
وقد نرفض أو نقبل أشياء كثيرة، بناء على أسبقية موقفنا القيمي والنفسي، قبل التفكير في محتواها واتجاهاتها.
إن تطوير الثقافة العربية من خلال مقترحات التسرّب عبر شقوق وتصدعات الحداثة الغربية، أو استثمار ما توفره متاهات هذا النظام، فشل آخر ينضم إلى لائحة الفشل السابقة. ذلك أن إصلاحا جادا يعني تزويد الثقافة العربية، بما يجعلها قادرة على الاستمرار في الحياة والنمو، بالقرب من شبكة ومؤسسات الثقافة العالمية الحديثة بكل إكراهاتها العنيفة. ومهمة الإصلاح الثقافي هي أن يصنع للثقافة العربية مساحة محترمة في العالم.
أهم العناصر في أي إصلاح ثقافي ليست هي التأويل وإعادة القراءة والتفكيك، أو النقد والمراجعة. لكنها القدرة على تفعيل عنصرين أساسيين وهما: ” جاذبية” و” إيجابية ” محتويات الثقافة، ضمن السياق العربي. ولذلك فإن مستقبلا ثقافيا جديدا، يحتاج ماضيا أكثر إيجابية وجاذبية.
الحداثة الغربية
عندما يقرر مثقف عربي أن يبحث عن نموذج جيد في العالم للاستفادة منه أو تبنّيه، فإنه ينسى المشكلة الأكبر، وهي مدى القدرة على الاستمرار في مسايرة النموذج، بنفس السرعة التي يمضي بها حيث نشأ. والتي تختلف بالضرورة عن السرعة التي نمضي بها في المنطقة. إن المدى الزمني الذي يستطيع فيه الإنسان أن يستمر في تقليد غيره، في المفاهيم والأفكار، ليس مفتوحا، وذلك قبل أن يفقد حتى القدرة على التقليد، الذي يتطلب بذاته قدرا من الحركة.
ومهما واجه المثقفون المحافظون الحداثة الغربية بالأدوات الفكرية، فإن جهدهم سيحتاج إلى سرعة الحركة. ففي عمق وقلب الحداثة العالمية عنصر الحركة والسرعة، الذي لن يتحدى عقل المثقف، بل سرعته الذهنية وقدرته على المسايرة.
المشكلة إذن ليست في التقليد ولا حتى في رفض التقليد، بل في سرعة الحركة بين الثقافة العربية وغيرها.
السرعة تفرض على النخب البطيئة مفهوم” اللّحاق”، والسعي لتدارك فارق المسافة. وهو ما سوف يبدو لنا أنه تقليد، لكنه ليس كذلك، بل مجرد سعي للحاق بالعالم.
ليس انفتاح الثقافة أو تعدديتها أو تسامحها وعقلانيتها، هو ما يفسر قدرتها وفاعليتها. فسرعة حركتها تجعلها تتفوق في احتلال المناطق الفارغة في وعي الشعوب. الإصلاح الثقافي مهما كان مضمونه مبدعا، فلن يتقدم إلا بالسرعة الكافية لإنجازه.
إن” تسارع التاريخ” قانون حقيقي، ويتطلب أكثر من مجرد الملائمة والتكيف مع الواقع. السرعة تجعل مناطق كانت مهمة ثقافيا في الماضي، تصبح ثانوية في الحاضر أو العكس.
إن مشاريع الإصلاح الثقافي العربي كثيرة، لكن عنصرا بقي غائبا، هو سرعة الحركة. أمّا الاهتمام بالسرعة، فيؤدي بالضرورة إلى نمو مبدأ ” الإنجاز”.
إلى هنا أكون قد أكدت أن صيغ الضعف متعددة داخل الثقافة العربية، وأن أشدها حركي وشعوري، لا ذوقي أو عقلي فحسب.
وتبدو أزمة سرعة المواكبة واضحة، ويمكننا أن نتساءل عن أهم الأشعار التي قيلت عن قضية فلسطين في الآونة الأخيرة.
وما هو المدى الذي بلغته من حيث الانتشار؟ وقد تكون صدمتنا كبيرة إذا أردنا إحصاء أنشطة المسارح العربية، في مواكبة جولة الصراع الفلسطيني الأخيرة.
وزارة الثقافة
كان التقليد العربي في السابق، يقوم على وجود نخب ثقافية فاعلة، تقوم بالإنتاج والإبداع، مقابل قيام وزارة الثقافة العربية بإدارة مخرجات الإبداع. كان يحدث هذا بسبب حالة الزخم والكثافة الثقافية في المجتمعات العربية. غير أن العملية تبدو معكوسة في الوقت الحالي، فوزارة الثقافة العربية مضطرة أكثر إلى التحفيز من الأعلى، بسبب حالة الفراغ في الأسفل، لكي تفتح المساحات التي لم يعد في مقدرة المثقف العربي أن يفتحها.
لم يعد لوزارة الثقافة العربية خصوم ومعارضون كما في السابق، حين كانت الأيديولوجيات مؤثرة في المنطقة.
ولن يمضي وقت طويل لتكتشف وزارة الثقافة، أنها قد تصبح” المثقف العربي الأخير”، في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة.
لم تعد الثقافة المعاصرة اجتهادا فرديا بل رؤية عامة. وبات مطلوبا من الوزارة العربية مسؤولية أكبر في توجيه النقاشات العامة، واتجاهات التفكير العربي. وأن تكون أكثر ” اقتراحية “. وتفرض الاقتراحية مزجا أكبر بين كوادر التخطيط وكوادر التفكير.
أما اشتغالي بالتاريخ والاجتماع، فقد أنشأ لدي قناعة من خلال ملاحظة أحوال المنطقة. وهي أن أي وزارة ثقافة عربية في حاجة إلى الانفتاح على ما توفره أبحاث علم النفس الاجتماعي. قد يبدو هذا الأمر غريبا، لكن من يدرك أهمية اتجاهات المجتمعات وميولها، سوف يتيقن أننا لسنا إزاء ترف فكري، أو تكلفة زائدة عن الحاجة بالنسبة لأصحاب الإرادة. لا يسعنا هنا أن نتعمق في هذه المسائل، لكن وزارة الثقافة العربية سوف تتجه مستقبلا إلى شغل حيز أكبر من أي وزارات دينية أخرى، بسبب تحولات العالم وتأثيراتها على المنطقة.
لن أعود في تأكيد محور الإنسان في هذا النموذج إلى أصول دينية أو عقلية، أو تقاليد متعارف عليها. كما لن أشير إلى مطلب القيم التي يطالب الكثيرون بها الإنسان العربي. لكني استمد محتوى هذا النموذج من أصول ومحفزات واقعية، يستطيع الجميع ملاحظتها. فهي تفرض وضع الإنسان في المحور، مثل واقع ” الإذلال” وحجم “المظلومية”، التي يعرفها الإنسان العربي في العالم.
فالمجتمع والثقافة مصنوعان من مادة اجتماعية ونفسية. وعندما يرفض الناس شراء منتجات معينة، بسبب شعورهم كونها أداة تستند إليها منظومة الإذلال في العالم، فإن السياسة سوف تضطر للتفاعل مع الاتجاه الجديد، والانتشار الهادئ لأساليب حياة بديلة.
إن بروز تيار إنساني في المنطقة، لا يحتاج إلى المبالغة في الحديث عن القيم، بل الاهتمام بكيفية تحويل المظلمة العربية إلى مفاهيم. إن تركيز المثقف على ” الكرامة”، موضوع معاصر وعاجل للثقافة العربية المعاصرة.
السياق العالمي
الثقافة العربية ضمن السياق العالمي، بحاجة أن تنتقل إلى مرحلة متقدمة من النضال الثقافي بالأدوات الموجودة، من أجل القيم التي ينبغي على الآخرين احترامها في المنطقة. إن انتظار ولادة فيلسوف أو مفكر أو شاعر للقيام بهذه المهام، يعتبر خللا عظيما، فلا أحد يولد بهذه الصفات. وبالمقابل فإن النضال الثقافي، هو ما يمنح الكثيرين هذه الخصائص.
كانت مشكلة انقسام ألمانيا وهزائمها منذ بداية القرن التاسع عشر، وما تعرضت له من إذلال القوى الكبرى، قد أنتجت فيلسوفا مثل نيتشه، الذي لم يكن في بداياته منشغلا جدا بالفلسفة. لكن بسبب أزمات ألمانيا الشعورية والسياسية والعسكرية، أصبحنا مضطرين أن ننظر إلى نيتشه لا كفيلسوف، بل باعتباره مشكلة ألمانية، وصدمة في الثقافة العامة، تبحث عن تأكيد أهمية ثقافة القوة في العالم، بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاعتراض على المضامين المقترحة.
كاتب مغربي