جاء اجتماع محافظي البنوك المركزية في “#جاكسون هول” مؤشراً على نجاح السياسة النقدية بقيادة #الاحتياطي الفدرالي الأميركي في السيطرة على التضخم، مع التراجع في المخاوف من الركود، خصوصاً بعدما بشّر رئيس الفدرالي #جيروم باول بقرب موعد #خفض الفائدة الأميركية لأوّل مرّة بعد دورة تشديد صارمة انطلقت في عام 2022. مع ذلك، يشير بعض التحليلات إلى أن هذا النجاح قد يكون مؤقتاً، بسبب تحوّل هيكلي محتمل في #الاقتصاد الأميركي.
تأثيرات مالية وسياسية
منذ عقود، اعتمدت الولايات المتحدة سياسة “الهيمنة النقدية”، حيث كان للاحتياطي الفدرالي دور رئيسي في ضبط التضخّم بالتحكم في أسعار الفائدة قصيرة الأجل. وقد نجح في الماضي في الحفاظ على استقرار الأسعار والنمو الاقتصادي باعتماده أدوات اقتصادية علمية بحتة. لكن، تغير الوضع بعد الجائحة نتيجة السياسات المالية التي اتبعتها الحكومة، إذ ارتفع حجم الدين العام بشكل كبير، بسبب ارتفاع الإنفاق الحكومي وتزايد العجز الفدرالي، حيث اضطر المركزي الأميركي إلى طباعة المزيد من العملات الورقية لتأمين السيولة. وأدى هذا إلى ارتفاع التضخم، ومعه ارتفعت أسعار الفائدة في محاولة لكبح هذا التضخم، فزادت التقلبات الاقتصادية.
تشير ورقة بحثية حديثة، صاغها ثلاثة خبراء اقتصاديين من جامعة نيويورك وستانفورد وكلية لندن للأعمال، إلى أن الولايات المتحدة بدأت في الانتقال من نظام “الهيمنة النقدية” إلى نظام “الهيمنة المالية”، حيث أصبحت الحكومة الفدرالية المهيمنة على الاقتصاد من خلال إنفاقها الكبير. وهذا قلل من قدرة الاحتياطي الفدرالي على التحكّم بالتضخم. هذا الوضع الجديد يجعل البنك المركزي أقل فعالية في السيطرة على التضخّم، ويزيد من تعقيد إدارته سوق العمل، حيث يجب عليه التعامل مع موجات تضخمية متكررة تتطلب قرارات صعبة في ما يتعلق بتحديد أولويات النمو والاستقرار المالي.
دورٌ في الدين العام
يُعد الإنفاق المالي الهائل الذي تبنته الولايات المتحدة، خصوصاً بعد الجائحة، عاملاً رئيسياً في ارتفاع الدين العام، الذي تخطى 34 تريليون دولار. بلغ حجم العجز الذي سجلته الميزانية الفدرالية الأميركية في أول 6 أشهر من السنة المالية الحالية، أي من تشرين الأول (أكتوبر) حتى آذار (مارس) الماضيين، نحو 1,064 تريليون دولار، بحسب البيانات التي نشرها مكتب الميزانية في الكونغرس الأميركي، والسبب بطبيعة الحال هو قفزة الإنفاق إلى 3,25 تريليونات دولار، بزيادة 6% عن الفترة نفسها في العام الماضي.
نتجت الزيادة في الإنفاق من مسألتين: الأولى، ارتفاع الإنفاق على كل المستويات: حزم التحفيز الاقتصادي والإنفاق الدفاعي والرعاية الصحية وغيرها؛ والثانية، زيادة مدفوعات الفوائد بشكل كبير، في ظل بيئة الفائدة المرتفعة، والتي سجلت زيادة بـ 133 مليار دولار إضافية، أي بنسبة 43%، لتصل مدفوعات الفوائد إلى 440 مليار دولار، في ستة أشهر فقط.
زاد هذا الدين الضخم من تعقيد وضع الاحتياطي الفدرالي. فمع تزايد النفقات من دون تخفيضات ملحوظة أو اهتمام جاد بخفض العجز، تصاعدت المخاوف من أن يؤدي الدين إلى تأكّل القدرة على مواجهة الأزمات المستقبلية.
عليه، كان صندوق النقد الدولي قد وجّه سابقاً تحذيراً إلى السلطات الأميركية من تزايد الدين العام، وطالبها بالبدء في خفضه، لما في ارتفاعه من خطر على الاقتصادين الأميركي والعالمي.
وعلى الرغم من أن السياسة المالية بدأت تتخذ خطوات أكثر إيجابية لتحفيز الاقتصاد، خصوصاً في قطاعات التصنيع والبنية التحتية، فإن المخاطر تبقى موجودة. وتؤدي الزيادة في الدين إلى تضييق خيارات الحكومة الفيدرالية في المستقبل، حيث ستضطر إلى تمويل هذا الدين بشكل مستمر. هذا الوضع يعزز احتمالية العودة إلى نظام “الهيمنة المالية”، حيث تصبح الأولويات الاقتصادية هي تجنب الإفلاس بدلاً من تحقيق الاستقرار النقدي.
نقدية ومالية
العلاقة بين السياسات النقدية والمالية معقدة للغاية. فعلى الرغم من أن الاحتياطي الفدرالي يملك أدوات قوية لضبط التضخم، فإن السياسات المالية الواسعة تؤدي إلى تضاؤل فعالية تلك الأدوات. فمن خلال الإنفاق الكبير، تلعب الحكومة دوراً مباشراً في زيادة العرض النقدي، ما يزيد من نسب التضخم في بعض الأحيان، ويُضعف تأثير رفع أسعار الفائدة الذي يعتمده الفدرالي.
في الوقت نفسه، هناك جانب إيجابي لهذا التحوّل: الحكومة قادرة على تحفيز جانب العرض في الاقتصاد من خلال رصد الاستثمارات في البنية التحتية والسياسات الصناعية، وهذا يُعد خطوة إيجابية لتحسين الإنتاجية على المدى الطويل.
لكن هذا النهج، الذي يتطلب إنفاقاً كبيراً، يؤدي في النهاية إلى رفع مستوى الدين العام، ما يعزز من تزايد التحديات الاقتصادية التي يواجهها الاحتياطي الفدرالي.
إن النجاح في السيطرة على التضخم الذي تحقق مؤخراً هو خطوة إيجابية، لكن الخطر يكمن في أن تتفاقم مشكلات الدين العام، ما يعيد البلاد إلى حال من عدم الاستقرار المالي. لذا، على الولايات المتحدة إدارة سياساتها المالية بحذر لضمان استمرارية الاستقرار المالي والتحكم في الدين المتزايد، خصوصاً مع اقتراب موعد انتهاء صلاحية اتفاق رفع حدّ الاقتراض، في 1 كانون الثاني (يناير) 2025.
وكان الكونغرس الأميركي قد وافق في 1 حزيران (يونيو) 2023 على اتفاق لرفع حدّ الاقتراض، قبل أيام من حلول الموعد النهائي الذي كان سيجعل أكبر اقتصاد في العالم يتخلف عن سداد ديونه.