تحليل السياسات

اليهود والمسلمون وتفاوت الصلة بالحرب الحالية

كتب وسام سعادة في “القدس العربي”:

أظهرَ التفاعل مع الحرب الإسرائيلية «اللاتمييزية» على الإطلاق بين حركة حماس وبين سكان قطاع غزّة انقساماً ملحوظاً، وإن يكن نسبياً، في الموقف والمسلك حولها بين يهود أمريكا.
فاليهود المندّدون بالصهيونيّة باتوا أقلية مرئية وناشطة أكثر من ذي قبل في الولايات المتحدّدة. وإن كان الانقسام الأبرز بين اليهود في أمريكا الشمالية هو بين الخائفين على إسرائيل من نفسها، أو من جموح وصلف قادتها، وبين «المتطابقين» مع إسرائيل فكرة ودولة وجيشاً وحكومة في الحرب الحالية.
يتراجع في المقابل المشهد الانقساميّ حول هذه الحرب عند اليهود خارج الولايات المتحدة، سواء عنينا الأكثرية اليهودية من سكان إسرائيل أو غير ذلك من تجمعات اليهود في حواضر العالم.
خارج النطاق اليهودي الأمريكي، تحوز الحرب الحالية على ما يقترب أن يكون إجماعاً يهودياً حولها.
وفي إسرائيل نفسها، تحوّلت الفئة من اليهود المناهضة للصهيونية إلى أثر بعد عين.
تراجعت كذلك الأمر الفئة الصهيونية المقتنعة بتسوية تقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام. مركز الانقسام نفسه انزاح إلى أقصى اليمين أكثر من ذي قبل.
هناك فئة لم تفتر حساسيتها السلبية ضد نتنياهو، وترى فيه ظاهرة محدّدة لاستقلالية القضاء مثلاً أو لصورتها المتخيلة عن «الديمقراطية الإسرائيلية» أو عن «الأخلاقيات الصهيونية»؛ لكن هذه الفئة غير قادرة على بلورة تصور متكامل ضد الحرب الحالية، وتكتفي بالتمترس وراء ملف الأسرى لدى «حماس» وشجب استهتار نتنياهو بمصيرهم، في حين لا ينال «اللاتمييز» الإباديّ الشنيع بين الحرب الاستئصالية ضد حماس و«الجهاد» وبين الحرب الإبادية للسكان من اهتمام قائم بذاته، حتى من زاوية ارتداداته المعنوية والرمزية.
هل يمكن إرجاع كل هذا الضعف لدى المناوئين لنتنياهو إلى مسؤولية هجمات 7 أكتوبر في «اللاتمييز» بين أي إسرائيلي وآخر، وفي تحويلها إلى حرب وجودية؟ ينقسم الرأي في هذا بين العرب أنفسهم، وبين المسلمين. فمنهم من يحتكم لثنائية «سكان أصليون» في مقابل «استعمار استيطاني» ومنهم من يحتكم لطبعة محدّثة من مسلك وجد لنفسه تربة فقهية أيضاً في تاريخ المسلمين ويقيس الأمور بالمصالح والكلفة والجدوى، ومنهم من ينتفض على واقعة أن يقرّر الإسلاميون لوحدهم مصير الجميع.
أما في إسرائيل، فقد يسوّغ الوسط واليسار الصهيونيان تعذّر رفع مستوى النقد للحرب الحالية بدعوى أن حماس هي التي فرضت منطق الحرب الشمشونية. لكن اليمين الصهيوني، «التنقيحيّ» المهيمن في إسرائيل منذ عقود طويلة، لا يمكن أن يدّعي ذلك. فهذا اليمين يفاخر بأنه مقتنع من الأساس بوجودية الصراع على «أرض إسرائيل» وفي نطاقها: فإما هم، السكان الذين توارثوا الأرض منذ نكبة أورشليم ويهودا على يد الرومان، وإما نحن، «الأصلو-أصليين» العائدين بالقوة الاستعمارية، والعنف الاستيطاني.

يبدو لوهلة، أن العالم الإسلامي يشعر بوحدة حال وجدانية مع الفلسطينيين، من دون أن تحركه وحدة الحال هذه نحو شيء محدد، أبعد من مقاطعة بضائع إسرائيلية وغربية هنا أو هناك

في مقابل الانقسام النسبي، أقله في «المناخ» بين يهود أمريكا حيال الحرب الحالية، يبرز طابع مختلف كلياً للانقسام في إسرائيل. فهذا الانقسام اذ انزاح يميناً الى درجة قصوى، يسمح مع ذلك لبنيامين نتنياهو بإدارة الدفة، بين من هم على يمينه وبين من هم على الجانب الآخر، ضمن الحكومة الواحدة. يشاكسون، يقدّمون عروضهم الواحد تلو الآخر، وهو يمضي الى تحقيق هدف مركزي للخط الصهيوني – التنقيحي: إلغاء أي أساس لإقامة كيان فلسطيني يمكن أن ينسب من قريب أو بعيد الى معنى «الدولة» غرب نهر الأردن. ومن ثم، حل الفلسطينيين من حيث هم «شعب» بالمعنى السياسيّ لكلمة شعب.
بالإجمال إذاً، تترافق الحرب المتواصلة منذ ما يقرب العام مع دعم يهودي لها ليس هناك ما يقف حجر عثرة دون نيله سمة الإجماع إلا اختلاف الرأي بين يهود الولايات المتحدة، وهي البلاد التي بها ثاني أكبر عدد من اليهود بعد إسرائيل، لكن بها في الوقت نفسه أكثرية اليهود القادمين من شرق ووسط أوروبا من الأشكيناز.
التفريق بين اليهودية وبين الصهيونية أساسي. في الوقت نفسه، ينبغي عدم مخادعة أنفسنا: أكثرية يهود الكوكب يؤيدون اليوم إسرائيل في حربها، وقد لعبت كل من هجمات 7 أكتوبر والصورة المبثوثة حول مسار الحرب حتى الساعة دوراً مهماً في حشد هذا التأييد. معظم يهود العالم يعتبرون منذ حرب 1967 أن مصير إسرائيل يعنيهم بشكل مباشر، حتى لو كان أكثر من نصفهم لم ينتقل اليها. من هنا خطآن عند مناهضي إسرائيل والصهيونية. خطأ تصوير المسائل كما لو كان الانقسام حول إسرائيل والصهيونية محورياً بين يهود العالم في حين أن معظمهم يؤيد حرب إسرائيل اليوم. والخطأ الثاني يتمثل في المقابل بالاستسلام لهذا الأمر، واعتباره دامغاً لا يمكن تخطيه، أو اعتبار أن أي حديث عن مآل العلاقة بين اليهود والمسلمين، أو بين اليهودية والإسلام كمنظومتين دينيتين ثقافيتين يختلف حضورها فيما بين المسلمين وفيما بين اليهود، هي من لزوم ما لا يلزم.
هل يمكن قول الشيء نفسه عن مسلمي الكوكب اليوم؟
هم، بالإجمال، يتماهون مع الفلسطينيين في هذه الحرب. مهلاً. لكن هذا التماهي مبهم. كما لو أنهم يقيمون في كوكب والحرب تحصل على كوكب آخر. فأغلب المسلمين لا يشعرون بأن مصيرهم معلق بمصير الشعب الفلسطيني مثلما يشعر أكثر يهود الأرض بأن مصير إسرائيل يتعلّق بمصائرهم هم حيث هم. في الماضي، حاولت حركة القومية العربية إقناع نفسها والعرب بأن تحرير فلسطين مسألة مصيرية بالنسبة الى تحقيق الوحدة العربية، وجرى الانقسام إثر ذلك من يسبق من، التحرير أو الوحدة. أما على صعيد متابعة عموم مسلمي الكوكب للحرب الحالية، فليس هناك شيء من هذا القبيل. وليس هناك ما هو على غراره لدى العرب بعد اضمحلال الفكرة القومية الوحدوية العربية. في الوقت نفسه، لا يسع مسلمو أي اقليم في الكوكب عدم رؤية واقعة حرب إبادية ضد سكان بأغلبيتهم الساحقة من المسلمين في قطاع غزة، ومن التسرع بمكان اعتبار أن ذلك لن يكون له أثر في مآل المسلمين في هذا القرن. بعض الناس يرجو أن يؤدي ذلك الى انتفاض المسلمين على «الإسلاميين» والبعض الآخر يرى في المقابل أن الوقائع الإبادية من شأنها إعادة تزويد الإسلاميين بمظلومية جديدة وخطيرة. الانتخابات الأردنية لا يمكن أن يبنى عليها وحدها. لكن لو قدّر إجراء مثلها في عدد آخر من البلدان العربية والمسلمة اليوم، لظهر أن التيار الإسلامي أبعد من أن يتأثر سلباً من مسار الحرب الحالية. من دون أن يكون بالمستطاع القول إنه قادر على أن يتحول الى تيار أكثري عارم في أي من هذه البلدان.
لا يمكن القول إن الحرب الحالية هي حرب بين كل اليهود وكل المسلمين، إنما لا يمكن القول أيضاً أنها لا تعني إلا الإنسان كإنسان أو فقط الإسرائيليين والفلسطينيين. هي تعني معظم اليهود بشكل أو بآخر، ومعظم المسلمين، بشكل أو بآخر. مع فارق أن معظم اليهود في عالم اليوم يتعامل مع سؤال المصير بالنسبة الى إسرائيل كسؤال مصيري على الصعيد الشخصي المباشر أيضاً، وليس هذا حال المسلمين، وإن كانت إبادة جزء من مجتمع منهم لا يمكن تجاوزه كتفصيل عارض. هل يعني ذلك أنه لا يمكن احتساب مقولة كالعالم الإسلامي كمقولة ذات فحوى ومغزى في الجيوبوليتيك والعلاقات الدولية؟ هل تسمح الحرب الحالية بفض مقولة «العالم الإسلامي» نهائياً، أو على العكس تماماً، إعادة ضخ المعنى اليها؟ يبدو لوهلة، أن العالم الإسلامي يشعر بوحدة حال وجدانية مع الفلسطينيين، من دون أن تحركه وحدة الحال هذه نحو شيء محدد، أبعد من مقاطعة بضائع إسرائيلية وغربية هنا أو هناك. هل يعاني العالم الإسلامي والحال هذه من «فائض علمنة» في تفاعله مع الوضع الفلسطيني، أو على النقيض تماماً، هل يعاني من «فائض اسكاتولوجيا» في وزن الحرب الحالية، كما لو كانت جزءاً من قصص ديني يحدث في مكان آخر غير هذه الأرض حيث نحن ويقترب من حديث النهايات، من «نهاية الأزمان»؟ ربما جاز افتراض تداخل المنحيين معاً.

كاتب من لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى