تحليل السياسات

شرق أوسط جديد لن تتحكم فيه إسرائيل

كتب حسين مجدوبي في "القدس العربي"

ترافق اندلاع الحروب دائما حرب الإعلام، وهي جزء مهم من الحرب النفسية، وخلال حرب الطوفان، يجري الترويج من طرف الكيان، وعدد من وسائل الإعلام العربية التي تدور في فلك التطبيع لشرق أوسط جديد، يخضع لتصور الكيان. ومن أخطر الأدوات التي يتم توظيفها إبان الحروب هي الحرب الإعلامية التي من عناوينها البارزة الحرب النفسية وحرب التضليل، وأصبح الخبراء يطلقون على بعض وسائل الإعلام “أدوات الدمار الشامل”، وذلك لخطورتها على نفسية المقاتل وعلى الشعب، وكيف يمكنها تحويل الانتصار إلى هزيمة، أو الهزيمة إلى انتصار.
وعند اندلاع طوفان الأقصى، سيطر الحذر على الرواية الإسرائيلية ومن يدور في فلكها في العالم العربي من أصوات مطّبعة، واكتفت بترديد رواية أن المقاومة الفلسطينية هي، حركة إرهابية بسبب هجومها على المدنيين. وهذا ليس بالغريب، تفيد التجارب التاريخية بأن المقاومة عادة ما يتم وسمها بالإرهاب، وهذا لا يقتصر فقط على العالم العربي، بل إن حكومة فيشي الفرنسية صنفت سنة 1943 المقاومة الفرنسية ضد النازية الألمانية بالإرهاب، ويكفي العودة لقرارات وإعلام تلك المرحلة. واعتبر الغرب في مرحلة معينة المقاومة المغربية والجزائرية المسلحة للاستعمار الفرنسي إرهابا، وهي حالة غالبية شعوب افريقيا وآسيا التي ناضلت ضد الاستعمار.
وبعد أن نجحت إسرائيل في اغتيال كل من زعيم حركة حماس إسماعيل هنية، ثم زعيم حزب الله حسن نصر الله، وتنفيذ عمليات خطيرة مثل تفجير “البيجر” والويكي ويكي، بدأت البروباغندا الإسرائيلية وقنوات عربية وشريحة من الإعلاميين من المحيط إلى الخليج في الترويج إلى “الشرق الأوسط الجديد”، وفق تصور إسرائيل. وفجأة ظهر مثقفون وأشخاص يدعون أنهم شيوخ، يحاولون إرساء تصورات جديدة نسميها مجازا “السلفية – الصهيونية” و”العروبة -الصهيونية”، ما زالت تصورات جنينية الآن، ولكن يعتكف خبراء التواصل على تطويرها لتصبح قائمة مثل “المسيحية – الصهيونية”، ويعتمد هؤلاء الخبراء على إرث سلبي من الماضي العربي، يتجلى في ترحيب بعض الفقهاء والسلاطين والمثقفين بالاستعمار إبان النصف الأول من القرن العشرين والتعاون معه. وهكذا، أصبحت عناصر المقاومة التي تقوم على ما هو معنوي مثل العروبة والإسلام توظف لتبرير قبول “إسرائيل القوية”، التي ستعمل على خلق توازن مع إيران، وبدل التركيز على جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل، بدأت هذه الأصوات تروج لرواية أنه لا يجوز الترحم على حسن نصر الله لأنه شيعي، ولا الترحم على إسماعيل هنية لأنه يدور في فلك إيران، وتصنف يحيى السنوار بالإرهابي. وأصبح بعض أنصار العروبة، بدل التنديد بالمشروع الاستيطاني الإسرائيلي، ينبهون من خطر المشروع الإيراني على العالم العربي، ومقولة سيطرة إيران على أربع عواصم عربية، متناسين أن الولايات المتحدة هي التي دمرت العراق، وأن دولا عربية هي التي تآمرت على اليمن، وأن إسرائيل غزت لبنان مرات قبل ظهور حزب الله،  وأنه كانت هناك مؤامرة استهدفت سوريا ليس لتخليصها من رئيس دموي مثل بشار الأسد، بل خدمة لإسرائيل ومشاريع جيوسياسية مرتبطة على المدى المتوسط والبعيد بالصراع الغربي – الصيني، وظهرت حلقة منها مؤخرا من خلال طريق الهند شرق المتوسط للتجارة، لمنافسة طريق الحرير الصيني.

يبدو أن بعض الدول لم تستوعب المنعطف التاريخي، ببدء دول مثل تركيا وإيران وباكستان صناعة سلاحها، وأن من يصنع سلاحا متطورا يفرض واقعا جديدا في علاقاته الدولية وفي إقليمه

ونسأل هذه الأصوات: هل دول أمريكا اللاتينية وافريقيا التي تدعم المقاومة، وتندد بإسرائيل ورفعت دعوى ضدها أمام المحكمة الجنائية الدولية بدورها لديها مشاريع توسعية في الشرق الأوسط رغم البعد الجغرافي؟ ومن ضمن العناصر غير المعروفة بما فيه الكفاية التي تقف وراء الترويج لتصور “شرق أوسط جديد”، وجود أنظمة انخرطت في التطبيع لسببين الأول، هو انبهارها بالنموذج الإسرائيلي وتعتقد أنه الأفضل، والسبب الثاني هو شعور العجز التام من طرف بعض الأنظمة العربية، لأنها لا تستطيع مواجهة إسرائيل ولو سياسيا في الأمم المتحدة، بل تلجأ إلى إسرائيل لحمايتها من فرضية الخطر الإيراني. في المقابل، لن تتم ترجمة “الشرق الأوسط الجديد” وفق التصور الإسرائيلي وما يروج له دعاة التطبيع إلى واقع سياسي في المنطقة للأسباب التالية:
في المقام الأول، السلاح يؤثر على صنع القرار السياسي والدبلوماسي والجيوسياسي عموما. يبدو أن بعض الدول وبعض خبرائها، لم يستوعبوا المنعطف التاريخي، ببدء دول مثل تركيا وإيران وباكستان صناعة سلاحها، وأن من يصنع سلاحا متطورا يفرض واقعا جديدا في علاقاته الدولية وفي إقليمه، هذه الدول المنبطحة تشعر بالخجل وهي ترى التقدم العلمي لهذه الدول، التي لا تمتلك موارد كبيرة، وتشعر بالخجل لأن ليس لديها ماض في مواجهة الاستعمار. ونتساءل: لماذا تتفنن تركيا في صنع الدرون وإيران في صنع الصواريخ فرط صوتية، بينما بعض الأنظمة المطبعة تعرض عشرات المليارات من الدولارات لشراء الأسلحة وتستجدي حماية واشنطن والكيان؟
في المقام الثاني، لم تدرك هذه الدول ومن يدور في فلكها أن إسرائيل قوة عسكرية، كانت في الماضي تقهر جيوشا عربية، والآن لا تستطيع لوحدها مواجهة مقاومة مثلما يحدث في مواجهة المقاومة الفلسطينية والإسرائيلية. تأملوا جيدا: أكثر من 500 رحلة طيران لنقل الأسلحة الأمريكية لصالح الجيش الإسرائيلي منذ طوفان الأقصى، تمركز أكثر من 20 سفينة حربية في الشرق الأوسط منها حاملات طائرات ومدمرات لحماية إسرائيل، ثم نشر نظام ثاد لتأمين أجزاء الكيان بعد فشل القبة الحديدية، علاوة على أن عشرات من الأقمار الاصطناعية الغربية تعمل لصالح إسرائيل على مدار الساعة. لو كانت لإسرائيل القوة العسكرية الكافية لترجمة مشروع “الشرق الأوسط الجديد” إلى واقع لكانت قد ردّت مباشرة على الهجوم الإيراني الذي استهدفها يوم الفاتح من أكتوبر بأكثر من 200 صاروخ باليستي وفرط صوتي وكروز بدل استشارة البنتاغون، وطلب المساعدة منه. يحصل كل هذا، بينما لم تحصل المقاومة على أي قطعة سلاح من طرف الدول العربية، بل إن بعضا منها يساهم استخباراتيا ولوجيستيا في دعم إسرائيل وخنق المقاومة. لنتساءل: لماذا لم يتوقف التبادل التجاري بين هذه الدول وإسرائيل.
نعم، نتيجة هذه التطورات الكبرى التي تعرفها منطقة الشرق الأوسط بعد طوفان الأقصى سيكون هناك “شرق أوسط جديد”، ولكن لن تتحكم فيه إسرائيل. ولنحتفظ بما يلي: إسرائيل تريد شرق أوسط جديد، وهي لم تهزم بعد سنة حركتي مقاومة وتستعين بالجيش الأمريكي في هذه الحرب. ثم، كان جيش ألمانيا النازية من أقوى الجيوش في النصف الأول من القرن العشرين، وقتل عشرات الملايين ومنهم اليهود وجرى تصنيف المقاومة الأوروبية إرهابا، ولم ينجح هتلر في تشكيل وتأسيس حلمه وهو: “أوروبا جديدة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى