أبكي عليك يا لبناني أنا، تنهال عبراتي الثكلى على وجنتيّ القاحلتين كاللهيب العنيد، محرقة الأماني، ملطخّة الريادة، ومستدعية النحيب.
أبكي على زمن تورّطٍ تراءى لي ذات مغيب.. في قرارات خاطئة، وأفكار مارقة، وجبهات مشاغلة لا تغيث، ومساندة في بلدنا تعيث.
أبكي على الوطن الحبيب، قلبي يتحسّر على بيروتي المدلّلة الفاتنة لأنني لم أُطِل في عيونها الحلوة النظر والتأمل والغزل.. هي في ذروة إشتعالها كحلم يتبخّر، كخطاب يتبعثر، كمزاج يتكدّر، وكندم يتجذّر.
شموخ مبانٍ يتقهقر، منشآت تختفي بومضة، تنحسر كغصّة، وبيوت تهاوت ذابت.. شُيّعت في تابوت، عروس المدائن، مذ متى تخلع بياضها المعطّر ويكسوها يأس وكرب وضجر؟
أين الضحكات الهادرة، أين النفوس الثائرة، أين الألعاب الماهرة.. كلها باتت ذكريات، وحتى تحوّلت بفعل الهمجية إلى مجرّد فتات.
من أضرم النار في جسد بلدي الغضّ الأنيق، من قادنا مكبّلين إلى مصير قاتم كأفواج الرقيق، تنتظر مآلها السحيق، في حفرة على الطريق، خلّفها إنفجار نعيقه لا نطيق ورائحته صادمة كآمنٍ على مصيبة يستفيق؟
أبكي بلوعة، أبكي بعجز، وجع الولاء لك أيها الوطن الحبيب، ولاء ممزوج بالدم المتدفق من جراحك المثخنة، وآهاتك المتعالية كالأرواح المزهقة في زوايا الاتفاقات الخبيثة، والحروب البديلة، والتداعيات المريرة لتناحر الشرير والشريرة، على أرض بريئة كدمية طفل، ووحيدة كصافرة النهاية.
أبكي لأنني مقتنعة بوطني قناعتي بالحرية المدوّية، والسيادة القاتلة، والاستقلال المرهون، وأعيد إختياره آلاف المرات مهما إشتدّت الاختبارات، وتعاقبت الأسئلة اللعينة التي لا جواب لها، سوى في قواميس اللغات الأخرى المهيمنة والطاغية والطامعة في هويتنا اليافعة، وفي أسطر بعض أحزابنا المتخاذلة أمام الخارج الملهوف للسطو على أحلامنا النضرة.
يرونك يا لبناني الغالي ورقة خريفية صفراء متهالكة، محمولة في ملفات سياسية مسمومة مكتومة ملغومة.. باعوك يا بلدي الحزين في أروقة الاجتماعات المُقامرة، وفي ركام الردم المتأجّج، وفي حسم الميدان المؤدلج والمزنّر بطروح حجرية تدّعي الأزلية.
هذا ليس رمادك يا وطني، فأنت باقٍ كصمود أرزك، وراسخ كنثرك، مبدع كشعرك، وساطع كصحافتك. إنّه فقط رمادهم المتفحّم بنشوة الاستكبار المميت.
في الحروب تتوهجّ يا وطني وفي الرخاء تتلألأ، هي أضواء مشرقة وأنوار مبهجة.. الرماد لا يليق بك، ولا يقترن بإسمك.
هذا رمادهم فقط يا وطني الحبيب، رماد إستكبارهم الذي يأبى الاعتراف بمجدك وتفوّقك وحبك. رماد أولئك الطاعنين لك في الصميم تحت عنوان الدفاع الحميم عنك وعنا، وعن أسطورتهم المرتجفة في المسارات الزاحفة نحو الاستكبار الذليل.
وتبقى أنت يا وطني تلمع في عيون الصغار، عند سماع روايات البطولة من آبائهم وأمهاتهم الذين تحدّوا الدمار، ويسعون للإستقرار، فيما لا يلوح في فضاء البعض سوى خيبة الاستكبار.