
لم يكن الفنان فريد الأطرش مجرّد مطرب أو ملحن أو ممثل من النوع المألوف والعادي. ولم يكن فريد الأطرش مجرّد فنان مشهور يجيد الغناء والتلحين،
وله جمهوره العابر. لِقد كان فريد الأطرش فناناً كبيراً، حد الجنون والهوس.
وأذكر أن وفاة فريد الأطرش في السادس والعشرين من كانون
الأول (ديسمبر) عام 1974 في بيروت، أحدثت حالة هلع
لدى محبيه، شعر بها الشارع العربي في كل مكان. وقد كان خبر وفاته في بيروت، له وقع وفاة الزعماء المجبوبين. وهو بالفعل كان زعيما فنيا بكل ما للكلمة من معنى. لقد بدأ في بيروت عرض فيلمه السينمائي الجديد «نغم في حياتي» المأخوذ عن قصة «ماريو-سيزار-فاني) للأديب الفرنسي الراحل مارسيل بانيول، قبل وفاته بأيام قليلة. وهو ما جعل الإقبال على مشاهدة الفيلم مضاعفا. وقد استمرّ عرضه في الصالات العربية لشهور طويلة. الفيلم الذي ظهرت فيه أغنيته الشهيرة «حبّينا حبّينا»
باللهجة اللبنانية، قد لا يعرف كثر أنها أغنية كتبها الشاعر
اللبناني الراحل توفيق بركات للسيدة جورجينا رزق. وكانت جورجينا رزق (زوجة الفنان وليد توفيق الحالية) انتُخبت في ( 1971) أي قبل عامين من تصوير الفيلم ملكة جمال الكون. وضجّ العالم في حينه باسمها وصارت حديث العالم.
وهي كانت – وما زالت – العربية الوحيدة التي وصلت إلى هذا اللقب. وعند وصولها إلى بيروت عائدة ومعها اللقب الجمالي الكوني، استقبلها الشاعر في
المطار كما غيره بهذه الكلمات التي تقول: (جورجينا يا جورجينا، حبيناكي حبينا، ولو ما حبّينا عيونك، ما تعذّبنا ولا جينا..)). يومها راقت الكلمات لفريد الأطرش، وكانتِ جورجينا حاضرة دائمة في سهرات بيروت وهو دائماً أحد نجومها. فلحّنها لها، وغناها الجميع في إحدى تلك
السهرات. وبما إن لاقى اللحن والأغنية استحساناً كبيراً، قرّر فريد وضعها في فيلمه الجديد. ولم يكن منطقيا أن يغنيها لاسم ما، فكان أن اقترح تغيير المطلع الذي وافق عليه الشاعر على مضض وصارت الأغنية كما يلي: ((حبّينا حبّينا، حبيناكي حبينا، ولو ما حبينا عيونك ما تعذبنا ولا جينا..). وغناها فريد الأطرش في الفيلم الذي كان من بطولته وإلى جانبه ميرفت أمين التي رقصت على الأغنية، وحسين فهمي الذي كان فريد غريمه في الفيلم، حيث تنافسا على حبّ الشابة الجميلة. وقد صوّر فريد الأطرش فيلم ((نغم في حياتي» في بيروت وفي مدينة جبيل البحرية اللبنانية والقاهرة في مصر. وكان فريد قد صوّر قبله فيلمين بين مصر ولبنان، هما: «الحب الكبير» في منطقة «بيت مري» مع فاتن حمامة، و«زمان يا حبّ» في منطقة «اليرزة» مع زبيدة ثروت. قبل أيام قليلة من ذكرى رحيل فريدٍ الأطرش غابت حبيبته التي كان مغرما بشخصيتها وبخفّة دمها الفنانة اللبنانية صباح، واسمها الحقيقي «جانيت فغالي». وفي حين رحل فريد الأطرش عام 1974، رحلت صباح عام 2014، أي بعده بأربعين سنة بالتمام والكمال. والغريب أن صباح ظلت تذكر فريد الأطرش وكرمه ومحبته الكبيرة، حتى أواخر أيامها. وهو الذي لحن لها أحلى أغانيها وآخرها «يا حلوة لبنان» من كلمات توفيق بركات، الذي غنت صباح من كلماته العديد من الاغاني، وأهمها «ع الضيعة»، «كرم الهوى» من ألحان محمد عبد الوهاب. لكن لو سألني أحد أي أغنية تحبها من أغاني صباح التي لحنها لها فريد الأطرش؟ فسأجيب فوراً أغنية «ع الصورة امضيلي ع الصورة، وزينها بوردة زغيّورة، وديلي الصورة يا حبيبي ع جوانح نسمه وعصفورة..)).
وهي من كلمات الراحل ميشال طعمة، الذي لحن له فريد الأطرش أغنية «على اللّٰه تعود» للكبير وديع الصافي.
رحل فريد الأطرش، وبعد عقود طويلة، يظلّ حاضراً بموسيقاه وأغانيه وأفلامه وسيرته الجميلة. والمؤسف أن فريد لم يترك وريثا يعرف كيف يحافظ على ذكره بعد رحيله، بل ترك أبناء إخوة وأقارب اختلفوا وما زالوا على كل ميراثه الفني، وبالتالي لم يتمكّنوا معاً من إنجاز أي أمر يحفظ ذكره وذكراه التي يستحقها.