تحليل السياسات

عون – سلام… يجمعهما الخوف من الآخرين!

أنطوني جعجع_"لبنان الكبير"

لم يكن الرئيس جوزاف عون يتوقع في يوم الاستشارات النيابية أن يسقط نجيب ميقاتي، ولم يكن القاضي نواف سلام يتوقع بدوره أن ُينقَل بين ليلة وضحاها من رئاسة محكمة العدل الدولية في لاهاي الى رئاسة الحكومة في بيروت.

كان الرئيس عون يميل الى حكومة يرأسها ميقاتي حتى الانتخابات النيابية المقبلة، ليتماهى بذلك مع رغبة “حزب الله” وحركة “أمل”، هامساً أمام المقربين منه أن حكومته الأولى والجدية ستتشكل بعد أيار من العام ٢٠٢٦.

هذا ما كان في حسابات عون، اما سلام فالواضح أنه لم يكن يملك من الحسابات الا تلك “المدينة الفاضلة” التي طالما كان يحلم بها خلال مسيراته الثورية والعلمانية والأكاديمية والقضائية.

وقد يسأل سائل: وماذا يعني ذلك؟

الواضح أن رئيس الجمهورية الذي عايش الثنائي الشيعي عندما كان قائداً للجيش على مدى ثماني سنوات، يعرف أن الحكم من دونه شبه مستحيل، وأبلغ الى من يعنيهم الأمر أنه لن يوقع على أي حكومة يمكن أن تجر القاعدة الشيعية الممانعة الى الشارع وربما الى مواجهات أهلية تضع عهده على كف عفريت من اللحظة الأولى.

والواضح أن سلام، المعروف بعدائه الشديد للكيان الاسرائيلي والمناضل في صفوف حركة “فتح” تحت قيادة ياسر عرفات، ليس في وضع يسمح باعطاء الثنائي الشيعي ما يمكن أن يستفز تل أبيب وواشنطن، ولا يسمح في المقابل باستفزاز محور الممانعة من خلال حكومة تعمل تحت مظلة أميركية لتطبيق القرار ١٧٠١ بكل مندرجاته وتحديداً القرار ١٥٥٩.

الرجلان ليسا في وضع مريح، فالأول، أي عون، يريد ارضاء الثنائي الشيعي لكنه خائف من الأميركيين والسعوديين والعالم الغربي، وسلام يريد ما يريده عون وخائف مما يخاف منه، مع فارق وحيد، وهو أن عون غير خائف من بيئته السياسية المارونية هو الآتي من خلفية عسكرية، خلافاً لسلام الخائف من بيئته السنية التى يبدو أنها لا ترى فيه ما يمكن أن يملأ ذاك الفراغ الهائل الذي أعقب اغتيال رفيق الحريري وإبعاد خليفته سعد الحريري، ليصبح لبنان بذلك تحت رعاية رجلين يعانيان مشكلة الخوف من شيء أكثر من الخوف على شيء.

وانطلاقاً من هذا الواقع يمكن أن نعرف أسباب الخيبة التي بدأت تدب في المجتمع اللبناني السيادي والمستقل، وأسباب الصدمة التي بدأت تسود الأوساط السعودية والأميركية اضافة الى أسباب التعنت الاسرائيلي الذي بدأ يأخذ شكل الاعداد لحرب جديدة بعد انتهاء فترة الهدنة الممددة حتى الثامن عشر من شباط الجاري.

وما يعزز هذا الانطباع على المستوى السعودي تطوران، الأول تقديم الانفتاح على الرئيس السوري أحمد الشرع على الرئيس جوزاف عون، واستقباله في الرياض كحيثية عربية يمكن الاعتماد عليها في مواجهة محور الممانعة أولاً، وفي بناء الشرق الأوسط الجديد ثانياً، وفي شد عصب السنة بعد أربعة وخمسين عاماً من حكم آل الأسد ثالثاً، والحؤول رابعاً دون انتقال سوريا الجديدة من الحضن الايراني الى الحضن التركي.

وما ينطبق على عهد الشرع، لا يبدو متاحاً في عهد عون الذي تأخر في اتخاذ خيارات حاسمة كانت متوافرة وممكنة، وفقد فرصة نقل لبنان من العهد الايراني الى العهد العربي، أو الافادة من المظلة الدولية للتخلص من المظلة الايرانية التي تمكن “حزب الله” من استعادتها بسرعة قياسية.

ويعتقد الكثير من المراقبين أن زيارة الموفد السعودي يزيد بن فرحان المقبلة لبيروت بعد زيارة وزير الخارجية المصرية بدر عبد العاطي، لن تكون زيارة مجاملات بقدر ما ستكون زيارة تعليمات تخيّر الحكم الجديد بين الخضوع لسلطة “حزب الله” حصراً، أو التزام الخيارات العربية – الدولية التي ترفض أي عودة الى منطق الحرب على الحدود الجنوبية أو الى سطوة الممانعين على الرئاسات الثلاث، أو الى أي مقر أو منطلق لأي عقيدة أو سياسة تسيء الى أمن الخليج ومصالحه وسلامة أبنائه.

وأضاف هؤلاء أن بن فرحان سيبلغ الى من يديرون شؤون التشكيل الحكومي، أن المملكة العربية السعودية أدت قسطها في ما يتعلق بملء الفراغ الرئاسي في بعبدا ومحاولة ملئه في السراي، وأن المطلوب الآن تحرك رسمي لملء الحضور اللبناني على مستوى الالتزام والقرارات الحاسمة، لافتين الى أن الرياض تحاول التوصل الى تعاون بين لبنان وسوريا الجديدة لضبط الحدود المشتركة من الطرفين وليس من الطرف السوري وحده، معربة عن القلق من أن تسهم ما وصفوه بـ “بلادة” سلام في فتح ثغرات يمكن أن تستفيد منها طهران للتسلل الى لبنان على مستوى المال والسلاح والهيمنة.

وفي الحديث عن “البلادة”، أكدت مصادر سنية أن نواف سلام لا يشكل المرجعية المناسبة للسنة في هذه المرحلة لا بل ليس رجل المرحلة في المطلق، معتبرة أنه يحاول أن يكون “نصير الشيعة” أكثر مما يهمه الانفتاح على دار الافتاء وتيار “المستقبل” أو أي حيثية سنية في أي مكان من لبنان.

وذهبت المصادر نفسها بعيداً الى حد القول ان المجتمع السني سيحاول في ذكرى “الرابع عشر من شباط” أن يفرض على الرئيس سعد الحريري البقاء في بيت الوسط بالقوة، والانطلاق به الى انتخابات العام ٢٠٢٦ كاعصار يعيد الى الحضور السني في البرلمان الوزن الذي يليق به والقوة التي يستطيع بها اعادة التوازنين السياسي والطائفي الى المجتمع الاسلامي في البلاد أولاً والى المجتمع اللبناني ثانياً.

والواقع أن وضع عون في البيئة المسيحية ليس أفضل حالاً، على الرغم من أنه ليس الطرف المباشر المسؤول عن تشكيل الحكومة العتيدة، في وقت بدأت الحملات الضمنية والعلنية تخرج من بعض دوائر الأحزاب والتيارات المسيحية التي تأخذ عليه الحرص على مراضاة الممانعين وتفهم شروطهم الفوقية والاستفزازية بعيداً مما أورده في خطاب القسم، مخاطراً بفقدان الزخم الدولي والعربي الذي لم يحظَ به أي رئيس لبناني منذ الاستقلال، واعادة عقارب الساعة الى ما كانت عليه قبل “الثامن من أكتوبر”، أي الى زمن القمصان السود والأمن الأهلي الهش والأمن الذاتي الذي يحاول تهميش الجيش ومنعه من الاضطلاع بأي دور يمكن أن يجعل “حزب الله” اما قوة عسكرية هجينة واما قوة عسكرية دخيلة.

لكن أكثر ما يفرض نفسه على الواقع اللبناني لا يأتي من بيروت أو دمشق أو القاهرة أو الرياض بل من واشنطن التي تستضيف رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو هذا الأسبوع للبحث في ثلاثة ملفات أساسية: الأول البحث في اقناع الاردن ومصر، سواء ترهيباً أو ترغيباً، باستقبال فلسطينيي غزة، والثاني محاولة الحصول على ضوء أخضر من الرئيس دونالد ترامب لاستئناف الحرب على حركة “حماس” بعد الانتهاء من صفقة تبادل الرهائن، وعلى ضوء أخضر مماثل لاستئناف الحرب على “حزب الله” بعد انتهاء فترة الهدنة الممددة في الثامن عشر من شباط الجاري، والثالث شن ضربات مباشرة ضد المنشآت النووية الايرانية في اللحظة التي يراها مناسبة.

ورجحت مصادر قريبة من البيت الأبيض أن يستمع ترامب جيداً الى ضيفه الاسرائيلي، مشيرة الى أنه لن يتردد في اطلاق يد اسرائيل إذا تأكد من أن التطبيع بين إسرائيل والسعودية لن يكون ممكناً ما دامت ايران تملك القدرة على التعطيل سواء من غزة أو من لبنان، واذا تأكد من أن بناء الشرق الأوسط الجديد لن يكون ممكناً ما دام حكم الأئمة قائماً في طهران.

وسط هذا المشهد القاتم، لم يعد أمام الثنائي عون – سلام الكثير من الخيارات لا بل الكثير من الوقت، هذا اذا أرادا فعلاً لا انقاذ لبنان وحسب، بل انقاذ هيبة الرئاسة الأولى التي تتعرض للتشويه منذ اتفاق الطائف حتى اليوم، وتعويم دور السنة الذين ارتكبوا، بعد اعتكاف سعد الحريري الخطأ الذي ارتكبه المسيحيون عندما خرجوا من العمل السياسي بعد نفي ميشال عون وسجن سمير جعجع.

أخيراً ثمة كلام على حكومة وشيكة سيحملها سلام الى عون في قصر بعبدا، وثمة كلام على وزير للمال من حصة الثنائي الشيعي وتحديداً من حصة الرئيس نبيه بري، ما يعني عملياً أن الرجلين سيجدان نفسيهما قريباً أمام واحد من أمرين: اما الحصول على تساهل أميركي- سعودي مشروط بأمر أساسي هو العمل على تطبيق القرار ١٧٠١ والاصلاحات الملحة، واما توفير كل المبررات التي تدفع الرئيس الأميركي المندفع كالثور الهائج في كل أنحاء العالم الى اطلاق يد نتنياهو في لبنان بدل تكبيلها، معتبراً أن بناء أكبر سفارة أميركية في المنطقة على رمال من بارود، يشبه من يذهب الى المقصلة على يديه قبل قدميه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى