تحليل السياسات

عيد مار مارون: الحقائق المرّة… وإمكانات النهوض؟

جوزف القصيفي نقيب محرري الصحافة

يحلّ عيد مار مارون هذه السنة وفي قصر بعبدا رئيس للجمهورية بعد سنتَين وشهرَين وخمسة أيام من الشغور. في هذه الفترة، ما من فريق ماروني إلّا وسعى إلى تسجيل أهداف في مرمى الآخر، محاولاً أن تكون له اليد الطولى في الاستحقاق لجهة المرشح الذي يرتاح إليه ويمكن أن ينسج معه علاقات وثيقة تمكّنه من جني الثمار التي يشتهي خدماتياً وسياسياً، وقطع الطريق على كل من يحاول منافسته.

وكانت نداءات البطريرك الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي التي حضّت النواب، وخصوصاً الكتل البرلمانية المسيحية على الذهاب إلى الاستحقاق متفقين على اسم مرشح، أو متوافقين على حضور جلسة انتخاب رئيس يختارونه من بين مرشحين عدة، تذهب سدى. المهم أن يكون في بعبدا رئيس تنتظم بوجوده هرمية الدولة من القاعدة إلى الرأس، من أجل أن يدور المحرّك هادراً، ومذكّراً بأنّ الحياة الدستورية بحلقاتها كافة يجب أن تنطلق في إعادة عملية البناء. ما كان الاستحقاق ليتأخّر لو أنّ قادة الموارنة حزموا أمرهم، وتوقفوا عن الحرب الضروس التي أصلوها عنواناً في ما بينهم، وقد تخطّت تصريحاتهم المتبادلة في أحيان كثيرة أدبيات التخاطب. وليهرب القادة الموارنة من القصور الذي رسفوا فيه، كانوا يجدون مشجباً يعلّقون عليه خلافاتهم. والحقيقة المرّة هي “أنّ دود الخل منه وفيه”، وعبثاً المكابرة وتجهيل الفاعل. أمّا اليوم وقد انتُخب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية بعد طول مخاض، وفي مناخات دولية وإقليمية داعمة، وتشكيل حكومة جديدة تواجهها مسؤوليات كبيرة على كل المستويات. فيبقى السؤال: أين الموارنة اليوم من الواقع الجديد في لبنان على إيقاع التحوّلات التي حصلت فيه، وفي المنطقة؟ قد تكون الإجابة صعبة وغير متاحة حالياً، لكن لا بُدّ من أن يحزم الموارنة أمرهم والردّ على السؤال الخطير: هل لا يزالون مع دولة لبنان الكبير التي وُلدت في الأول من أيلول 1920، أي مع الصيغة التي أوجدها البطريرك الياس الحويّك، والتي لا تزال موضع جدل في كل مرّة يهتز فيها الكيان اللبناني لدى هبوب رياح التحوّلات الخارجية التي تترك ذيولها السلبية على هذا الوطن حروباً وفتناً ونزاعات لا تنتهي؟ والمفارقة أنّ المسلمين الذين شكّكوا في عشرينات القرن المنصرم حتى نهاية أربعيناته بلبنان الكيان والدولة، وقامت في أوساطهم أحزاب وقوى وشخصيات سياسية طالبت بدمجه في وحدة سورية أو عربية، أصبحوا اليوم من أشدّ المتشبّثين بلبنان الوطن النهائي كياناً ودولة، خصوصاً بعد إقرار”إتفاق الطائف”، فيما تعلو اليوم أصوات مرتابة بهذه الصيغة لدى مجموعة من المسيحيِّين بذريعة أنّها استنفدت غايتها. ففي بداية الحرب اللبنانية قام مَن يدعو إلى التقسيم، فتصدّى له بقوة البطريرك الكاردينال مار أنطونيوس بطرس خريش، وكنتُ أنا شاهداً على حادثة تعرّض لها على درج بكركي من الغاضبين على إثر إجتياح الدامور في العام 1976، على يد التحالف الفلسطيني – اليساري، كما كنت شاهداً على جواب البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير على تظاهرة حزبية في العام 1985 إحتشدت في ساحة الصرح هاتفةً: “صيحي يا بكركي صيحي/ بدنا وطن مسيحي”، جاء فيه: “إنّنا مع لبنان الواحد من جنوبه، إلى بقاعه، فشماله”. ولم تحِد البطريركية حتى اليوم عن خيارها الاستراتيجي: أي دولة لبنان الكبير بحدوده المعترف بها دولياً. لكن للحقيقة، فإنّ بعض الأصوات المشكّكة داخل الطائفة تلقى آذاناً وهوى عند شريحة وازنة، خصوصاً من فئة الشباب. وهذه الأصوات يعرف أصحابها أنّ تقسيم لبنان هو قرار أممي غير متاح، ولا يبدو أنّه سيكون متاحاً. كما أنّه سيكون خارج قدرة أي طرف محلي، فلجأوا إلى الخطة “ب” بطرح الفيدرالية، لكن من دون هذه الصيغة عقبات ومحاذير ولا تقف على أرض صلبة. وإنّ الصِيَغ البديلة المناقضة لمشروع الحويّك تحمل في طيّاتها ضرراً محققاً للطائفة المارونية التي تتميّز بانتشاريّتها من أقصى الجنوب على الحدود مع فلسطين المحتلة، وأقصى البقاع الشمالي، وشمال لبنان في منطقة عكار تحديداً، على الحدود مع سوريا. وفي هذه المناطق كتلة سكانية مسيحية كبيرة تتآكل بفعل الهجرة إلى الداخل والخارج تحت وطأة الخوف والتخويف من المحيط، وبفعل انعدام الإنماء المتوازن. الأمر الذي لم تتصدَّ له الكنيسة، ولا القوى المارونية بالحزم الواجب لوقف النزف.

وإلى جانب هذه الانتشارية، هناك ملكيات عقارية واسعة عائدة للمسيحيِّين عموماً والموارنة خصوصاً في هذه المناطق، وعلى رغم من بيع مساحات كبيرة منها، فلا تزال هذه الملكيات عاملاً من عوامل الحضور، بفضل أوقاف الرهبانيات خصوصاً والأبرشيات عموماً، ونشاط بعض جمعيات المجتمع المدني التي تقيم مشاريع إنتاجية وزراعية، تبقى على تواضعها مظهراً من مظاهر الرغبة في الحفاظ على الانتشارية والتجذّر. وثمة أمر في بالغ الأهمية هو الحضور الماروني في الدولة. يذكر الجميع أنّ مسيحيّي عكار، ولاسيما منهم موارنة القبيات وجوارها، وأبناء القرى الحدودية الجنوبية والبقاعية ذات الغالبية المسيحية، كانوا يشكّلون الدندانة البشرية للجيش اللبناني، وبدأ عدد هؤلاء بالتقلّص منذ العام 1969 تدريجاً حتى بلغ مستويات دنيا مقلقة. وكان الموظفون المسيحيّون، وخصوصاً الموارنة حتى بدايات النصف الأول من ثمانينات القرن المنصرم يُشكّلون أكثر بقليل من نصف الموظفين في إدارات الدولة واجهزتها. أمّا اليوم، فقد تراجعت أعدادهم على نحو كارثي. فهل يحق للموارنة وسواهم من المسيحيِّين التذمّر والشكوى من واقع هم مسؤولون عنه، وساعد عليه مقاطتعهم الانتخابات النيابية في العام 1992، وانكفاؤهم بملء إرادتهم عن الإنخراط في الدولة ووظائفها مُخلين الساحة للآخرين ليملأوا الفراغ الناتج من غيابهم. وثمة موضوع لا يقلّ خطورة عن الموضوعين المشار إليهما آنفاً، وهو طريقة التعاطي مع الانتشار الماروني في العالم. إنّ هذا الانتشار الذي يُرفَد (بضم الياء) بفعل الأزمات السياسية المتناسلة في لبنان، وانعدام الاستقرار، وغياب فرص العمل، واستفحال الأزمات المالية والإقتصادية بهجرة الشباب والمهارات، لم يتمّ التعامل معه حتى اليوم كطاقة فاعلة، قادرة على التغيير الإيجابي، وتشكيل قاعدة إسناد خلفية للوطن الأم. وإنّ الحاجة ليس إلى مساعدات للعائلات المقيمة فحسب، والمساهمة في مشاريع خيرية أو إنمائية في البلدات والقرى، تبقى على ضرورتها محدودة الأثر والتأثير. بل إلى خطة تعزّز القدرة على الانتاجية، ولا تكون محصورة بمنطقة دون أخرى، بل تشمل كل المناطق سواسية من أجل إحياء نهضة اجتماعية – إقتصادية تساهم في ربط الإنسان بأرضه. وهذه المسؤولية ملقاة بصورة رئيسة على عاتق الكنيسة المارونية كما سائر الكنائس المسيحية ومؤسساتها العلمانية، لأنّ ابناءها في بلدان الانتشار أكثر عدداً، وقدرة وفاعلية، ولا تعوزهم الرغبة في الوقوف إلى جانب الوطن الأم لينهض، ويثب واقفاً على قدمَيه. لا يجوز اعتبار الانتشار عالماً منفصلاً عن لبنان المقيم، بل هو إمتداد له في الزمان والتاريخ والهوية، والإهتمام، والإلتزام بالحفاظ على التراث الوطني والروحي. بالتالي، لا فكاك بين هذَين العالمَين. إنّ سقف الكنيسة يجمع، سواء كانت تنتمي إلى أبرشية أو رهبانية، ومن هنا دورها في إبقاء النزاعات الحزبية بعيداً. وإذا شاءت فعلاً أن يكون الانتشار فاعلاً عليها أن تقوم بدورها الجامع، والحَضّ على السَير في الثوابت الوطنية والروحية. فمجتمعات الإنتشار تواجه خطرَين:

1 – غياب جيل الماهدين تدريجاً عن المشهد، وهو الذي غادر لبنان بالجسد، لكنّ حنينه إليه لم يخِب يوماً.

2 – سرعة اندماج الأجيال المتحدّرة من الماهدين التي وُلدت في بلدان الانتشار واندمجت بالمجتمعات المضيفة، وإحساسها أنّ وطنها هو حيث وُلدت وترعرعت وتعيش، من دون أن تنسى جذورها وتعاطفها مع لبنان، لكن ليس بالمستوى الذي كان قائماً مع الأجيال السابقة. لذا يتوجّب على الكنيسة أن تعمل بدأب من أجل مواجهة هذا التحدّي. وعلى كل المهتمّين بالانتشار الكَفّ عن اعتباره بقرة حلوباً، وتحريره من تأثير التجاذبات السياسية والحزبية، لتظلّ لديه القدرة على خدمة الوطن وأبناء الكنيسة والمساهمة في المشاريع الحيوية التي تعزّز ارتباطه بالجذور.

في عيد مار مارون الذي يصادف بعد شهر بالتمام على انتخاب الرئيس جوزاف عون، يواجه الموارنة تحدّيات ثلاثة:

أ – الالتزام بخط الكنيسة المارونية التي لم تتخلَّ عن رسالة الحويّك في وحدة الأرض، والتعدّدية والتنوّع، والعيش الواحد.

ب – الحفاظ على الانتشارية المارونية، بالتالي المسيحية وتعزيزها، وعلى هوية الأرض في مناطق وجودها.

ج – إعتبار الانتشار الماروني في العالم إمتداداً للحضور اللبناني في أرضه، والنظر إليهما كوجهَين لعملة واحدة يؤدّيان رسالة واحدة في خدمة لبنان والشعب الماروني، وفق استراتيجية تتجاوز كل الحسابات السياسية والحزبية.

د – العودة إلى الدولة والإنخراط فيها والتطوّع في الجيش والأجهزة الأمنية، ودخول الوظيفة العامة، كما كانت عليه الحال عشية نشوب الحرب اللبنانية في العام 1975.

إذا استطاعت الكنيسة المارونية وقوى الطائفة السياسية والحية ونخبها استيعاب دروس الماضي القريب والبعيد، وتقدير خطورة ما حَلّ بها من نكسات، يمكن الحديث عن تعافٍ ماروني يُصحّح الخلل أو بعضه على الأقل، ويُقلّص دائرة الإحباط نسبياً، ويؤشر إلى جدّية التعامل مع الملفات التي يتوقف مستقبل الموارنة في لبنان على حلّها. إذا أراد الموارنة أن يظلوا ملح لبنان، عليهم مواجهة الحقائق الصعبة بشجاعة المؤمن بقضيّته وتصميمه، وعدم التمثل بالنعامة التي تدفن رأسها بالرمال.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى