ثقافة ومجتمع

عن بابا الفقراء… جوازات سفرنا إلى الجّنة

كتب أنطوان العويط

غابَ وجهُكَ الوديع، ذاك الذي كان يُهدهد وجعَ الأرضِ بابتسامة، ويزرع الرحمةَ في عيونٍ أضناها الانتظار.

رحلتَ…لكنّ صوتكَ ما زال يتردّد كصلاةٍ خفيّة، في زوايا الكنائس، وفي أروقةِ المستشفيات،

وفي صدورِ المظلومين الذين أنصتوا يوماً لندائك: “كونوا جسوراً لا جدراناً، كونوا نوراً لا ظلالاً”.

كم خفّفتَ يا فرنسيس عن هذا العالم بثوبكَ الأبيض، فلم يكن منصبُكَ مجداً تتّكئ عليه، بل رسالةٌ تمشي حافيةً إلى قلوبِ المنهكين.

وما كانت سلطتكَ نفوذاً يُرهِب، بل حبّاً ينحني، يغسل أقدامَ الموجوعين، ويمسح دموعَ المتعبين.

بابا الفقراء أنت، وفي قلوب الفقراء، ستبقى حيّاً لا يُنسى، كأنكَ صلاةٌ لا تزال تُتلى، ونورٌ لا يغيب.

كنت أيها البابا القدّيس تطرق أبوابهم لتعتذر عن عالمٍ نسيَهم، وكنتَ إذا تحدّثتَ عنهم، ذابتِ الفواصلُ بين القصورِ والأكواخ، فهمّشتَ الهامش، وجعلتَ من وجعهم صلاة، ومن دمعتهم إنجيلاً يُتلى.

ألم تقُل “إذا كانت للفقراء قيمةٌ قليلة في أعينِ العالم، فإنّهم من يفتحون لنا الطريق إلى الجنّة. إنّهم جوازات سفرِنا إلى السماء”؟

ولم تكتفِ بالعِظات، بل سِرتَ حافيَ القلبِ بين الخراب، تُمسك بيد طفلٍ مشرّد، وتُربّت على كتفِ أرملةٍ فقدت كلَّ شيء، وتهمس”أنتم قلب الكنيسة… لا هامشها”.

وكان أن رفعت كرامة الإنسان عالياً، لا ببلاغة الشعارات، بل بشجاعة الأفعال. وعلى مثال يسوعك الذي طرد تجّار الهيكل، نفختَ روحَ الإصلاح في جسد الكنيسة، فأيقظتَ فيها ما خَبَا، وجدّدتَ عهدها بالحقّ. وجّهت الإكليروس، وخاطبتهم بجرأة ومباشرة “احذروا ألزهايمر الروح، والمجد الباطل، الثرثرة، وتأليه الرؤساء، اللامبالاة تجاه الإنسان، والتعلّق المَرَضيّ بالأشياء الزائلة”.

أنت الذي لم تخف الجُرح، بل أشرتَ إليه، وناديتَ الكنيسة أن تعودَ إلى جذورها، إلى خبزٍ للفقراء، وحضنٍ للمنفيين على أرصفة العالم.

طوّرتَ خلال حبريّتك الحوار بين الكنائس كما تُروى الأرض العطشى. وقد شهدت الاتّصالات بين بطريركيّة موسكو الأورثوذكسيّة والكنيسة الكاثوليكيّة تطوّراً نشطاً على جميع المستويات في السنوات الأخيرة.

وفي فلسطين، عانقتَ البطريرك المسكوني برثلماوس الأوّل ووقّعت معه وثيقة تاريخيّة. وفي الفاتيكان، صافحتَ رئيس الكنيسة الأنغليكانيّة أسقف كانتربري جاستن ويلبي. وفي القاهرة، التقيتَ البابا واضروس الثاني في الكاتدرائية المرقسيّة، ووقّعتَ معه التزاماً يُضيء الطريق نحو وحدةٍ طال انتظارها.

أقمتَ صلاةً مسكونيّة في أرض الأنبا رويس كرّمتَ فيها شهداء الكنيسة البطرسيّة، وأشَدتَ بمبادرات المحبّة التي تبنتها الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة تجاه شقيقتها الكاثوليكيّة.

هكذا كنت، يا فرنسيس، كأنك تقول: “المسيح لا يُقسَّم، والقلب حين يحبّ، لا يسأل عن الهويّة،

بل يفتح الباب ويُشعل النور”.

وكان للحوار بين الأديان مكانٌ دافئ في قلبِك، وبخاصة مع الإسلام، حيث رأيت في اللقاءِ صراطَ المحبّة، وفي الكلمةِ معبراً إلى السلام.

تجلّى ذلك في حضورك الواثق، حين التقيت الإمامَ الأكبر الدكتور أحمد الطيّب شيخ الأزهر، في أرض الإمارات، وتوقيعكما “وثيقة الأخوّة الإنسانيّة من أجل السلام العالميّ والعيش المشترك”، بما يُشبه فجر الله في الوجود.

أمّا لبنان، فكان له مكانٌ خاصٌ في قلبِك، فقد عرفته عن كثب، بوجعه وأرزِه وشتاته، وحملت قضيّته وردّدت مراراً “لبنان ليس مجرّد بلد، بل رسالة. ولكنّه اليوم… رسالةٌ معذّبة”.

وحين كان يُذكر وطني أمامك، كنت تصلّي من أجله، وتحمل شعبه في قلبك، تُقبّل علمه وتقول برجاءٍ لا ينطفئ: “مع انتخاب رئيسٍ جديد للجمهوريّة، سيكون هناك تحسّن في الوضع”.

ولم تنسَ الشرق أبداً، ذاك الشرق الذي ولد فيه المخلّص، والذي ما زال يُصلب على دروب الحروب والنزوح والخذلان. كنت تصلّي من أجله، وكلماتك لنا هناك كالماء في صحراء، تسكّن العطش ولو للحظة، وتشعل شمعة رجاءٍ في رهبة العتمة وظلامٍها.

واليوم،

وقد ودّعتَ العالم بعد قدّاس فصحكَ الأخير، يخسر العالم ولبنان صديقاً للإنسانيّة، وصوتاً للسلام، وصدىً للعدالة.

فيا فرنسيس… نَم بسلام، أيّها الحبرُ الذي صرتَ جسراً بين الله والناس، وانْتقلتَ إلى جواره،

كما أسلافكَ القدّيسين الرسل، الذين جلسوا على كرسيّ بطرس.

فسلامٌ عليك، يا راعي السلام…المسيح قام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى