ثقافة ومجتمع

معرض “مخاض” لميراي مرهج: لا عَلَم يعلو فوق العلم اللبناني

منير الحافي_"الجمهورية"

تجمعني بالفنانة التشكيلية ميراي مرهج رفقة عمر منذ أيام الجامعة. كانت طالبة في كلية بيروت الجامعية في رأس بيروت تدرس الفنون، وأنا أدرس الإعلام. ثم جمعنا تلفزيون “المستقبل” لفترة قصيرة حينما صارت تطلّ علينا، في محاولة للدخول إلى عالم الإعلام.

إلّا أنّ الفنّ الذي وُلِدَ معها كان أقوى، فذهبَت إلى حيث تُحِبّ وتثمَل. رسمَت وعشِقَت وسافَرت، إلّا أنّ حُبّها للبنان دائماً ما كان يُرجعها: “الـDNA الخاص بنا يتحكّم بنا ويُعيدنا إلى هنا”.

 

هي مؤمنة بأنّنا “أقوياء بالفطرة وأقوياء بالتجربة والحكمة”، لذلك بقينا في بلدنا على رغم من الأحزان والحروب”. كل هذه التجارب تُعبّر عنها ميراي من خلال ريشتها الزهية وألوانها الجميلة مثل ألوان ضيعتها “ضهور الشوير”. لكنّ معرضها الأخير في “مايا آرت سبايس” في وسط بيروت مختلف بكل المعايير.

لطالما كانت ترسم بطريقة الـ”بوب آرت”، وفي هذا المعرض لم تخرج عن إطار الفن الحديث، واستطاعت عبر تأثير الكولاج أن توصل الرسالة الفنية. سمّت معرضها الذي ينتهي قبيل عيد الأضحى “مخاض”. والإسم مأخوذ من وجع الأم قبيل الولادة، وهو المخاض الذي يعاني منه الوطن.

 

24 لوحة ومنحوتة تأخذك نحو التفكير عميقاً بهذا الوطن الذي يعاني كثيراً، وكلما اقتربت قيامته عاد ليُعاني. أعلام الدول موجودة في معظم الأعمال الفنية، في إشارة إلى صراع الأمم على لبنان والمنطقة.

 

تمثل واحدة من اللوحات الإنسان المعذب الصابر الذي ينام على ناصية الشارع، وهو مغطى بأعلام الدول المتصارعة. وكأنّ لبنان مرمي على قارعة الأمم.

 

لوحة أخرى تُصوّر كرسي الحُكم يجلس عليه شخص بلا رأس. واضح أنّه يمثل لبنان الذي لطالما انتظر ما بين رئيس ورئيس، خصوصاً الانتظار الأخير.

 

إنّه صراع الدول على المنطقة وعلينا، وصراع المؤسسات الكبرى كذلك في سبيل السيطرة التجارية. نتذكر أنّه خلال حرب غزة والحرب في جنوب لبنان صدرت دعوات لمقاطعة العديد من المنتجات العالمية التي قيل إنّها تدعم إسرائيل. ظهر هذا الأمر في عدد من لوحات ميراي.

 

عبّرت ميراي بالألوان عن صراع العالم على لبنان وعن صراعات الفرقاء في الداخل من دون أن تلمّح إلى أي فريق أو حزب لبناني. إنّما استخدام الألوان كأنّه يُعبّر عن الفرقاء. فكل فريق عنده لونُه في لبنان.

تُركّز لوحاتها على عَلَم الأمم المتحدة وعلى العَلَم اللبناني الذي نراه جلياً في كل اللوحات وعالياً على كل المواقع. تشعر حين تشرح لك ميراي عن لوحاتها، بمدى فخرها بالعلم اللبناني الذي يمثل وحده الوطن، كل الوطن.

 

هل سنخرج من المخاض بخير؟ تتمنّى ميراي أن “يولَد” بلدنا طبيعياً بعد المخاض العسير الذي عشناه أكثر من مرّة ويتكرّر اليوم. إنّها متفائلة بطبعها. وعلى رغم من أنّ كل شيء حولنا أسود إلّا أنّها تذهب إلى الألوان التي تُعبّر عن الفرح والسعادة والأمل. فالألوان “علاج” لها من خوفها على بلدها وعلى واقعنا ومستقبلنا.

 

حينما بدأت حرب السابع من أكتوبر ذهبت إلى الرسم للتعبير عن حزنها من مشاهد قتل الأطفال. صورةٌ أخرى تمثّل رجلاً مرمياً على الطريق يلتحف غطاءً مكوّناً من أعلام دول عدة. وكأنّ كل إنسان منّا، سواء أكان رجلاً أو امرأة أو طفلاً، يطلب الحماية بشدّة من هذه الدول، لأنّه بات مكشوفاً وجائعاً وعطشاناً… ومقتولاً.

 

ترسم ميراي وجه هذا الإنسان بثلاث عيون. لن يستطيع مشاهِد اللوحة أن يكشف عن جنس هذا الشخص. إنّه «إنسان بثلاث عيون». والعَين الثالثة هي عَين الحكمة، العَين التي تشاهد بشكل فلسفي مختلف. غطاء هذا الإنسان مصنوع من أعلام دول، منها عَلم الأمم المتحدة. لكن حتى الأمم المتحدة صارت تحتاج اليوم إلى مَن يَحميها في ظل صراع الكبار وصراع المصالح وصراع الضرائب ووقف المساعدات.

 

تقول ميراي عن تأثير الحرب في غزة وما شاهدته على التلفزيون ووسائل التواصل، إنّها رأت “أشياء لم أرَها قط في حياتي، فتدمّرت نفسيّتي”، ثم رأت الحرب على لبنان. فارتعبت كثيراً لأنّ الحرب صارت قربنا وفوق رؤوسنا.

أعادت هذه الحرب لأذهاننا لحظات رهيبة لطالما عشناها أيام الحرب الأهلية الأليمة التي حاولنا جميعاً نسيانها. خافت، ومرضت وتوجّعت. لكنّها في النهاية عبّرت عن حالتها بالرسم من أجل قضية، من أجل الإنسان ووقف الحروب ووقف الصراعات. أنتجت هذا “المخاض” الفنّي لتُشفى هي. تُخرِج ما بداخلها من خلال الفن وترتاح. “مخاض” يريح زائريه أيضاً.

 

رأيتُ لوحات جميلة، أنيقة تتداخل فيها الموضوعات العميقة بالألوان. هذه قوة ميراي مرهج التي تستطيع أن تجرّ المشاهد إلى داخل مكنونات عقلها من خلال لوحاتها. وتستطيع من خلال فنها، أن تكون شاهدة على مرحلة مظلمة من تاريخ وطننا والمنطقة، مع بصيص كبير من الأمل.

 

معرض “مخاض” لميراي مرهج في غاليري “مايا آرت سكوب” في وسط بيروت خلف مبنى بلدية بيروت، يستمر من 15 نيسان حتى 5 حزيران 2025.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى