
طوني عطيه
نداء الوطن
اكتسبت محطة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون العراقية في إطار جولاته العربية والإقليمية أهمية خاصة، في ظلّ التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة. فبيروت التي كانت ضمن لائحة العواصم الأربع الخاضعة لنفوذ الحرس الثوري، وعلى الرغم من تباطؤ فرض سيادتها الكاملة، باتت اليوم خارج السّبي إلى بابل الجديدة أي طهران. وبالتالي ينسج لبنان علاقاته الراهنة، انطلاقاً من منطوق الدولة ومصالحها، متحرّراً من عبء وحدة الساحات المفتوحة، والحدود المستباحة بـ “ترانزيت” الميليشيات
حمل اللقاء بين عون وبطريرك الكنيسة الكلدانية الكاردينال لويس روفائيل الأول ساكو في بغداد، بعداً تاريخياً كونه الرئيس اللبناني الأوّل الذي يزور البطريركية. ويعدّ ساكو رمزاً عراقيّاً ومسيحيّاً مناضلاً في سبيل سيادة وطنه ومكافحة الفساد والحفاظ على الوجود المسيحي في المنطقة. ويصفه مصدر كنسي بـ “صفير العراقي”، نظراً لأوجه الشبه بينه وبين البطريرك السادس والسبعين نصرالله صفير. فكما نزح الأخير من بكركي إلى الديمان بسبب اعتداء بعض أبناء كنيسته عليه وتعرّضه لحملات شعواء بسبب مواقفه السيادية، كذلك اضطرّ البطريرك ساكو عام 2023 إلى ترك المقر البطريركي في بغداد والتوجه إلى أحد الأديرة في إقليم كردستان لأكثر من 9 أشهر. وذلك على خلفية سحب المرسوم الجمهوري الخاص بتعيينه في منصب بطريرك على الكلدان في العراق والعالم، ومن ثم إصدار أمر قضائي باستقدامه إلى المحكمة، بتهم رفعها ضده زعيم ميليشيا “بابليون” المسيحية، المدعومة من فصائل “الحشد الشعبي” الموالية لإيران، والتي تنشط في سهل نينوى وبغداد. وأعلن البطريرك ساكو آنذاك أن “بابليون” لا تمثل المسيحيين، لكن زعيمها يحاول أن يكون ولي أمرنا، بعد أن استولى على مقدرات المسيحيين سياسياً ومالياً”.
من مقرّ البطريركية الكلدانية، أحيا عون صورة الرئيس اللبناني المشرقي، الذي يُشكّل بالنسبة إلى مسيحيي المنطقة رافعة معنوية وسياسية، تُعيد ربطهم ببلدانهم وتحفّز مشاركتهم بالحياة العامّة، عبر الدولة الوطنية وليس من خلال “حلف الأقليات” وتنظيماته العسكرية، أو الذوبان في الأكثريات والقوميات المناهضة للتعدّدية والخصوصيات
في هذا الإطار، أشار رئيس الطائفة الكلدانية في لبنان المطران ميشال قصارجي، إلى أن اللقاء أرخى بظلاله الإيجابية على المسيحيين العراقيين، ومتّن العلاقات التاريخية بين لبنان والعراق. كما أن رؤية البطريرك ساكو والرئيس عون تتواءم لناحية قيام دولة القانون والمؤسّسات الضامنة لجميع مواطنيها. وهذا ما عبّر عنه رأس الكنيسة الكلدانية، حين أبدى تفاؤله بعودة لبنان إلى طبيعته بعد الأزمات التي عاشها، مؤيّداً “الأهداف التي وضعها الرئيس عون للنهوض بالبلد، منذ انتخابه رئيساً للجمهورية، وخصوصاً في مسألة حصر السلاح في يد الدولة ومكافحة الفساد والوقوف في وجه الإرهاب، وأن يعود لبنان إلى سابق عهده، لأنه نموذج يحتذى به”.
من جهته، اعتبر أستاذ الفلسفة السياسية الأب باسم الراعي الذي كانت له إسهامات روحية وإنسانية في العراق إبّان التهجير والاضطهاد الذي حلّ بمسيحييه وغيرهم من الجماعات على يد “داعش”، أنّ المدماك الأساسي للحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق، هو من خلال إرساء أنظمة سياسية قائمة على التعدّدية واحترام الخصوصيات والهويات المتمايزة من جهة، وتعزيز الانتماء وارتباط المسيحيين بأرضهم وأوطانهم وعدم الانسحاب من الحياة السياسية من جهة أخرى.
هنا، يتحدّث الراعي عن اختبار عاينه عندما زار العراق عام 2013 بعد تهجير أهل نينوى والموصل على يد “داعش”. يقول: “ذهبتُ مع مجموعة من الكهنة لشدّ عزيمة المسيحيين ونقدّم لهم ما كنّا نحمله من مساعدات. كان حديث الناس وقتها “أنه لم يعد يربطنا أي رابط بهذه الأرض، وكان بعض الإكليروس يوقّعون أوراق المعمودية للذين يريدون التوجّه إلى السفارات من أجل الرحيل. وعندما أتى يوم الأحد، طُلب منّا أن تكون عظة القدّاس من نصيبنا، فأخبرتهم عن لبنان، عن أول ردّة فعل للشعب المسيحي عند اندلاع الحرب وتهديد وجودهم كيف سارعوا إلى رفع الصلبان فوق الجبال ثمّ المقاومة”. وتابع الراعي: “أخدنا معنا أرزة وبداخلها “دخيرة” مار شربل وبس رفعنا الأرزة كي نبارك الشعب، انهمرت الدموع وأسرع الكاهن الذي كان يوقّع أوراق المعمودية وأخذ منا “الميكروفون” وتحوّل خطابه من حتمية الزوال إلى خيار البقاء”.