
مع حلول يوم أمس يكون قد انقضى أربعون عاماً على غياب الرئيس إلياس سركيس، ابن الشبانية الذي غادر بلدته في قضاء بعبدا أعزل إلّا من طموحه واجتهاده، كان مقدّراً له أن يكون موظفاً في الإدارة اللبنانية، يقوم بمهماته الوظيفية بنزاهة ودقة الحقوقي الذي يُسقط كل الاعتبارات أمام اقتناعه بسيادة القانون.
ad
عُرِفَ سركيس باستقامته وصرامته في تطبيق القانون، وعدم مساومته على أي ملف يُعرض أمامه أياً كانت المغريات. وقد لفت هذا الموظف الشاب الرئيس فؤاد شهاب الذي قرّبه إليه، وفتح أمامه فرصة يستحقها للتقدّم، فأصبح مديراً عاماً لرئاسة الجمهورية، وحاكماً لمصرف لبنان، بعدما أظهر طول باع في الإدارة اللبنانية وأصبح ضليعاً في شؤونها، وخبر كواليسها، وزواريبها وتضاريسها.
كان سركيس شهابياً حتى العظم، قريباً من اللواء الرئيس، والرئيس اللواء، ولم يكن في حلقة ضباط “الشعبة الثانية” الذين كانوا ذراع العهد التنفيذية وعسسه الأكثر نفوذاً، إنّما كان قريباً منه، يقدّم له المشوَرة والنصح في المجالات التي يُسأل عنها، وغالباً ما كان يُسأل، بالإضافة إلى عمله في المديرية العامة لرئاسة الجمهورية. ضرب المثل في صيته وتواضعه وابتعاده عن الحياة الاجتماعية إلّا في حدودها الدنيا، مقلّ في كلامه، مجدٍ في عمله، متقشف، لا يطلب شيئاً لنفسه. وعندما سمّاه الرئيس فؤاد شهاب الذي زهد بمنصب الرئاسة الأولى ثانية، على رغم من إلحاح نواب “النهج” الموالين له، وكانوا يُشكّلون كتلة وازنة لخلافة الرئيس شارل الحلو، كان يعرف، لا بل يُدرك أنّه يُسمّي رجلاً قادراً على النهوض بالجمهورية التي يعرف أمراضها وعللها، ويُحسِن مداواتها. لكنّ الحظ لم يُحالف سركيس الذي تنافس مع الرئيس سليمان فرنجية الذي فاز بفارق صوت واحد، وسط أجواء مشحونة سادت جلسة الانتخاب ومحيط ساحة النجمة.
كان سركيس حاكماً لمصرف لبنان، وخيّل لكثيرين أنّ الرئيس فرنجية سيعمد إلى إقالته من منصبه الذي عُيِّن فيه العام 1968 لمدة 9 سنوات، لكنّ شيئاً من هذا لم يحصل، لأنّ سركيس كان رجل دولة يقرأ في كتاب القانون مثلما كان “معلّمه” فؤاد شهاب يقرأ في كتاب الدستور، لذلك لم يكن لديه أعداء ولا خصوم، كونه لم يمارس طوال عمله في الإدارة والحاكمية سياسة “الحرتقة” والانتقام الرخيص. وسارت الأمور بين الرجلَين على ما يرام إلى أن وقعت حرب لبنان في العام 1975 التي انصرف فيها سركيس إلى حماية القطاع المصرفي ومنعه من الانهيار، والنقد الوطني، والحرص على سعر صرف الليرة اللبنانية. وعندما توقفت الحرب بتضافر الجهد الدولي والعربي ودخول “قوات الردع العربية” وانكفاء الميليشيات، لم يكن أمام صانعي القرار في الخارج والقوى الوازنة في الداخل سوى خيارات محدودة لتزكية ترشيح رئيس يخلف فرنجية، وكان توافق واسع على انتخاب سركيس لأنّهم وجدوا فيه رجل المرحلة. والمفارقة أنّ فرنجية كان أكثر المتحمّسين لانتخاب الرجل الذي نافسه في العام 1970، وفاز عليه بشق النفس في جلسة ندر أن شهد لبنان مثيلاً لها في تاريخه. حتى أنّه لم يمانع انتخابه قبل ستة أشهر من انتهاء ولايته، على أن يتسلّم مقاليد الرئاسة بعد انقضاء الولاية الدستورية لسلفه. وهكذا كان لبنان أمام رئيسَين: واحدٌ منتخب يستعد للصعود إلى قصر بعبدا وينتظر حلول الساعة في منزله في الحازمية، ورئيس لا يزال يمارس مهماته الدستورية في مقر الرئاسة الموقت في الكفور – كسروان، إلى أن يحين موعد التسليم والتسلم. إستبشر سركيس بعد تسلّمه مقاليد الرئاسة خيراً من نتائج القمة العربية المصغّرة التي عُقِدَت في المملكة العربية السعودية في 16 تشرين الأول 1976، وتبنّت نتائجها قمة القاهرة بعد 9 أيام وثبتتها، وبدأت طلائع “قوات الردع العربية” بالوصول إلى لبنان والانتشار فيه، وشكّل حكومة عهده الأولى التي غلب عليها الطابع التكنوقراطي برئاسة سليم الحص، وأسند قيادة الجيش إلى العماد فيكتور خوري الذي باشر بلمّ شتات الجيش بعدما قسّمته “حرب السنتَين”، ودخل في مفاوضات شاقة لتنظيم الوجود الفلسطيني المسلح وتثبيت سلطة الدولة وشرعيّتها على أراضيها. لكنّ الأحداث تجاوزت إرادته، وسُجّلت أحداث خطيرة لم يكن في الإمكان تجاوز تداعياتها عندما اغتيل الزعيم الدرزي، رئيس الحركة الوطنية و”الحزب التقدمي الاشتراكي” كمال جنبلاط في 16 آذار 1977، وقضى جراء ذلك عشرات المسيحيِّين العُزّل الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالحادثة. ثم كان العام 1978 عام شؤم بالنسبة إلى سركيس. ففي الرابع عشر والخامس عشر منه قامت إسرائيل بـ”عملية الليطاني” مجتاحة 1100 كلم2، وقد صدر إثر هذه العملية قرار عن مجلس الأمن الدولي يحمل الرقم 425، يُلزم إسرائيل بالانسحاب إلى الحدود الدولية مع لبنان والالتزام باتفاق الهدنة لعام 1949، وانتشار الجيش اللبناني في الأماكن التي يفترض أن ينتشر فيها، واستتبع بالقرار الرقم 426 الذي يُحدِّد آلية التنفيذ، إلّا أنّ شيئاً من هذا لم يحصل. وفيما كان الرئيس يعالج قضية الاجتياح الإسرائيلي، دهمته حادثة الفياضية بين الجيشَين اللبناني والسوري في السابع من شباط، ولم يطل الأمر حتى كان ما كان في إهدن التي تسبّبت مأساتها في الثالث عشر من حزيران بأول وأخطر شرخ في الطائفة المارونية، وأدّت إلى فصل لبنان الشمالي عن جبله، وارتفاع الحواجز والسدود بين مسيحيّي هاتَين المنطقتَين. وأعقبها ما يماثلها هولاً في بلدة القاع البقاعية في الثامن والعشرين من حزيران. وليكتمل ” النقل بالزعرور” وقّع الرئيس المصري أنور السادات في كمب ديفيد إتفاق إطار للسلام مع إسرائيل في السابع عشر من أيلول. وكان هذا الاتفاق مؤشراً إلى توتر إقليمي واسع سيدفع لبنان ثمنه غالياً في ظل الوجود الفلسطيني المسلح، وتلكّأت الدول التي كانت تعهّدت بنزع سلاح المخيّمات عن تنفيذ تعهّداتها، وبدت الساحة خالية للتنظيمات الفلسطينية في أماكن وجودها، بعدما لمست تراخي قوات الردع – ولا سيما منها القوات السورية التي تُشكّل حجر الزاوية فيها- عن أداء الدور الذي حُدّد لها في قمتَي السعودية ومصر 1976. وكأنّ دور أيوب رُسِمَ لسركيس، فلم يتمكن من لجم الإنحدار الكبير نحو دوامة العنف، فكانت حرب المئة يوم من الأول من تموز إلى السابع من تشرين الأول 1978.
وفي عود إلى دوامة النزف الداخلي كانت أحداث السابع من تموز 1980 في الصفرا – ساحل كسروان – الفتوح، وما أعقبها من معارك وتصفيات، لتنفجر الأوضاع في زحلة بين القوات السورية و”القوات اللبنانية” من كانون الأول 1980 إلى حزيران 1981، وما تخلّلها من أزمات متفرّعة عنها، ومنها أزمة الصواريخ في سهل البقاع في نيسان 1981، والتي كادت أن تتسبّب بحرب إقليمية لولا نجاح مبعوث الرئيس الأميركي في حينه فيليب حبيب إلى نزع فتيله.
ولم يكد سركيس يتجاوز أزمة حتى تتصدّى له محنة. ففي السادس من حزيران 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان ودخلت إلى بيروت، وكانت أول عاصمة عربية تحتلها الدولة العبرية.
وقد شهد الجميع لسركيس طول أناته، وشديد صبره، وتألّمه الصامت لما آلت إليه أوضاع البلاد، وحاول مواجهة الواقع المرّ بتحريك الحوار الوطني الذي سعى إليه مخلصاً. ونجح في نهاية المطاف بتمهيد طريق الرئاسة لبشير الجميل الذي قضى إغتيالاً بعد واحد وعشرين يوماً على انتخابه، وكان يأمل في أن يفتح انتخابه هذا الباب أمام “سلام الشجعان”، وبذل جهوداً كبيرة لإطلاق دينامية حوار مع الرئيس صائب سلام، وليد جنبلاط، نبيه بري.
ومرّة أخرى واجهه الحظ العاثر. وهو كان رفض إقتراحاً فرنسياً حمله إليه وزير خارجية “الأم الحنون” كلود شيسون بتمديد ولايته لسنتَين، فرفض الاقتراح قائلاً: “إنّي لن أبقى في قصر بعبدا دقيقة واحدة بعد انتهاء ولايتي”.
لم يرحم القدر الياس سركيس، ولم يتسنّ له أن يمضي فترة تقاعده من الخدمة العامة في الإدارة اللبنانية وحاكمية مصرف لبنان ورئاسة الجمهورية، والخلود إلى الراحة والهدوء وكتابة مذكراته بعد كل العذابات التي عاناها، إذ سرعان ما أُصيب بداء عضال عجز الطب عن علاجه، فأغمض عينَيه في مقر إقامته في باريس في السابع والعشرين من حزيران 1985، طاوياً كتاب عمره الستيني على أوجاع جسدية، وخيبات وآلام كان شاهداً عليها ولم يستطع منع حصولها، وعاد ليُدفَن في الوطن الذي أحبّ، لبنان.
بعد هذه الجولة يمكن القول إنّ سركيس مضى من دون أن يُخلّف شغوراً في منصب الرئاسة، وسعى إلى انتقال دستوري جاء ببشير الجميل ثم شقيقه أمين بعد اغتياله. وعلى رغم من الصعوبات الكبيرة التي واجهته، ظلّ الجيش – على قلة إمكاناته – متماسكاً إلى حدٍّ بعيد. كما كانت الإدارة تعمل بوتيرة مقبولة، والعملة اللبنانية بألف خير قياساً لما شهدناه في ما بعد، ولم تكن الأزمات الحكومية – ولو في عزّ الحرب – بالحدّة عينها التي سادت حكومات معظم العهود التالية في مرحلة ما قبل اتفاق الطائف وما بعده. ولا كانت الانقسامات السياسية والطائفية والاجتماعية بالاتساع والعمق اللذَين نعيشهما اليوم.
في ذكرى مرور أربعين عاماً على رحيل إلياس سركيس، نورد هذه الإحاطة عن ولاية هذا الرجل الذي كابد بصمت، وتألّم بصمت، وعمل بصمت، واجتهد بصمت، وكان صمته أبلغ من الأصوات العالية التي لم يكن لها لا الوقع ولا الصدى.