أخبار محلية

في زمن يتسارع فيه كلّ شيء، ويُختزل الإنسان غالبًا إلى تشخيص أو عرض جانبي، تأتي تجربة د. ديفيد أبو خليل كمحاولة جذرية لإعادة طرح سؤال أساسي: ما معنى الشفاء؟

ليس بوصفه استجابة ظرفية لألم جسدي، بل كحركة داخلية شاملة، تستعيد التوازن بين ما هو محسوس وما هو خفي، بين ما نعرفه عن أنفسنا وما لم نجرؤ على لمسه بعد.

 

من خلال مسار طويل من البحث والتأمل والممارسة، يتقدّم نهج د. ديفيد كممارسة شمولية لا تفصل الجسد عن النفس، ولا الروح عن التجربة اليومية. فالإنسان، في نظره، ليس تجميعًا لأجهزة ووظائف، بل كيان معقّد، تتقاطع داخله الذاكرة البيولوجية مع الجراح العاطفية، والتوق الروحي مع الصمت الذي يسكن العمق.

 

لم يكن هذا الفهم وليد نظرية، بل ثمرة مسار شخصي واجه فيه الألم كمرآة، لا كعقوبة. اختبر فيه الهشاشة لا كضعف، بل كبوابة نحو وعي آخر. ومن هنا تبلورت لديه قناعة بأن الشفاء لا يُمنَح من الخارج، بل يُستعاد من الداخل؛ حين يُحرَّر الإنسان من صدماته، ويُستعاد الرابط بينه وبين ذاته الأصلية، تلك التي سبقت الجرح والنسيان.

 

خلال سنوات من العمل في دول مختلفة، لم يكن هدفه نقل تقنيات علاجية بقدر ما كان يسعى لإعادة طرح سؤال المعنى: كيف نعيش في أجسادنا؟ كيف نصغي إلى ما لم يُقال؟ وكيف نعيد ترميم علاقتنا بأنفسنا، لا كأفراد معزولين، بل ككائنات في سعي دائم نحو الانسجام؟

لقد أدرك أن الإنسان لا يُشفى وحده، بل يفتح عبر شفائه الشخصي ثغرة في الوعي الجماعي، تتيح لمجتمعه أن يتنفس بشكل أعمق، أن يُعيد النظر في صيغ القوة، والتربية، والارتباط، والرحمة.

 

في كتابه الأخير، الأسرار المدفونة، لا يقدّم وصفة للراحة، بل دعوة للغوص في ما خفي وتراكم عبر الأجيال، فينا. يستحضر تجارب المتصوفة، وحكماء العصور، ويضعها في حوار حيّ مع معطيات علم النفس والدماغ واللاهوت العصبي، ليقول شيئًا بسيطًا وعميقًا في آن: نحن مُهيّأون للاتصال. مُبرمجون، في أعمق طبقات وعينا، للانفتاح على حالة إدراكية تتجاوز ثنائية الذات والعالم، الخوف والطمأنينة، الانفصال والانتماء.

 

ليس كتابًا بقدر ما هو مرآة. مرآة تُظهر أن ما نبحث عنه ليس بعيدًا، بل مطمورًا تحت طبقات من النسيان والصمت والخوف.

إنه تمرين على الإصغاء. على الإصغاء لما لم يُقَل بعد، لا بالكلمات، بل بما يتجاوزها. دعوة إلى أن نعيد تشكيل وعينا، لا لنفهم الحياة، بل لنعيشها من مكان أكثر صدقًا، ورقّة، وتوازنًا.

 

هنا، لا يبدأ الشفاء من دواء، بل من لحظة صدق. لحظة نعترف فيها أن ما كُسر يمكن أن يُعاد تشكيله، لا كما كان، بل كما ينبغي أن يكون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى