لم يكن اغتيال هيثم الطبطبائي، رئيس أركان “حزب الله”، مجرّد حادث أمنيّ في سجّل المواجهة المفتوحة. فالضربة التي شقّت قلب الضاحية الجنوبيّة أعادت فتح جرح لم يلتئم منذ نهاية تموز 2024، يوم سقط فؤاد شكر في عمليّة مشابهة، قلبت المعادلات. تلك الضربة الأولى لم تكن حدثًا عابرًا، بل كانت الشرارة التي نسفت الخطوط الحمر لتدشّن مرحلة اتّسع فيها ميدان التصفيات الجماعيّة، ليطال قادة الحزب وكوادره.
أمّا اليوم، فتبدو عمليّة اغتيال الطبطبائي أخطر بما لا يُقاس. لا تكمن حدّتها في كونها طاولت “الرقم اثنين” في الهرم العسكريّ للحزب بعد طلال حمية، الناجي الوحيد من مجزرة قادة المجلس الجهادي، بل في أنّها جاءت في لحظة إقليميّة تتداخل فيها المسارات وتضطرب فيها التوازنات، وفي توقيت لبنانيّ هشّ يُعد الأدقّ منذ اتّفاق وقف الأعمال العدائيّة في 27 تشرين الثاني 2024.
وإذا كانت تصفية شكر قد افتتحت زمن الانزلاق نحو الحالة الآنيّة، فإنّ اغتيال الطبطبائي يرتقي إلى مرتبة الشرارة التي تتهيّأ لإمكانيّة إشعال الجولة الثانية من الحرب؛ جولة تريدها إسرائيل صاعقة وخاطفة، قصيرة بما يكفي لفرض تنازلات حاسمة، وقاسية بما يكفي لفرض وقائع جديدة بقوّة النار لا بحكم التفاوض.
على مدى عام، بقيت الاغتيالات محصورة في معظمها في الجنوب، في مسرح المواجهة التقليديّ. لكنّ انتقال العمليّة إلى عمق الضاحية الجنوبيّة شكّل خرقًا مضاعفًا، جغرافيًّا وسياسيًّا. فقد بدا أنّ تل أبيب تتصرّف وفق قاعدة قديمة – جديدة، حيث لا خطوط حمر تضبطها، ولا تفاهمات تكبحها، وأنّ الضوء الأخضر الأميركيّ بات ممارسة لا مجرّد إشارة.
أخطر ما في هذا التحوّل أنّه يعكس قناعة إسرائيليّة راسخة بأنّ الدولة اللبنانية فقدت القدرة على الإمساك بملف السلاح، وأنّ الفراغ الناتج عن هذا العجز يفتح أمام إسرائيل هامشًا واسعًا للتحرّك بلا قيود. هكذا تُعزّز إسرائيل سرديّتها: دولة عاجزة، وجيش محدود الصلاحية والقرار، وحزب يواصل توسيع ترسانته وإعادة تشييد منظومته العسكريّة بلا توقّف. وبهذه المقاربة تبرّر تل أبيب عمليّاتها، وبهذا المنطق تمنح نفسها تفويضًا دائمًا.
وتأسيسًا على ما سبق، لم يكن استهداف الطبطبائي جزئيّة ثانويّة. فالرجل هو أحد مهندسي القوّة داخل بنية الحزب، وصاحب أدوار أساسيّة في اليمن وسوريا، وركن محوريّ في إعادة تشكيل القدرات العسكريّة خلال معركة “أولي البأس”. لذلك، كان اغتياله رسالة مكثّفة تتوزّع على ثلاثة اتجاهات.
أوّلًا، إلى حزب الله: العملية تذكير بأنّ إسرائيل ستواصل مطاردة قادته حيثما كانوا ومتى تشاء، وأنّ سقف التحفّظ القائم منذ عام انتهى. إنّها إشارة إلى سقوط شامل لقواعد وقف الأعمال العدائيّة، وإلغاء فكرة المساحات الآمنة التي شكّلت الحدّ الأدنى من ضوابط الاشتباك.
ثانيًا، إلى الدولة اللبنانيّة، ولا سيما إلى الرئيس جوزاف عون الذي حاول أخيرًا تقديم مقاربة لبنانيّة لمسائل سلطة الشرعيّة في الجنوب والتلال المحتلّة والسلاح والتفاوض. خطاب الاستقلال كان محاولة لترتيب أولويّات وطنيّة تسبق التفاوض وتفتح باب الحلّ التدريجيّ. لكن ما استقبلته واشنطن ببرود، عاجلته إسرائيل بالنار. فبعد ثمانٍ وأربعين ساعة فقط على طرح مبادرته، جاء الجواب في قلب الضاحية الجنوبيّة، كمن يقول للبنان صراحة: “لا عروضكم مقبولة، ولا أوان المبادرات مناسب، ولا تفاوض في هذه اللحظة… وما من قوّة ستمنعنا من فرض شروطنا بالإكراه”.
ثالثًا، رسالة إلى الولايات المتّحدة ومسارها الشرق أوسطيّ. فعمليّة الاغتيال لم تأتِ خارج الإيقاع المتسارع على خطّ واشنطن – الرياض – دمشق. نتنياهو، المحاصر داخليًّا، اختار أن يشاكس المسار الأميركيّ الذي بدأ يحرجه ويفقده صدارة السيطرة… من خطّة إنهاء حرب غزّة، إلى اللقاء المدوّي بين الرئيس السوري أحمد الشرع والرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض، مرورًا بتصويت مجلس الأمن لصالح مشروع القرار الأمريكيّ بخصوص غزّة، وصولًا إلى الزيارة التاريخيّة لولي العهد السعوديّ الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن.
هكذا، جاءت ضربة الضاحية عند هذا المنعطف، كفعل اعتراض على مسار لا يرضي إسرائيل بالكامل. إنّها محاولة لإعادة خلط الأوراق، وإبلاغ الجميع بأنّ أي هندسة جديدة للمنطقة لن تمرّ ما لم تُؤخذ المصالح الإسرائيليّة الأوسع في الحسبان، وأنّ تل أبيب ما زالت قادرة على تعطيل أي سيناريو لا يراعي شروطها.
هذه لحظة مفصليّة تُظهر، مرّة جديدة، أنّ لبنان قد يكون خسر فرصة نادرة لاستعادة زمام المبادرة في ملف السلاح. فالدولة لم تنجح، لا في بلورة موقف موحّد، ولا في التقاط اللحظة الإقليميّة التي كانت تسمح – قبل أشهر – بفرض إطار جديد بين السلاح والدولة. ومع تسارع التصعيد، يبدو أنّ نافذة الحل الداخليّ قد أُغلقت أو تكاد، ليحلّ مكانها زمن الفرض الخارجيّ، حيث تُكتب المعادلات على وقع الميدان لا على طاولات الحوار.
أمام هذا الواقع، يجد لبنان نفسه اليوم أمام لحظة فارقة تتقدّم فيها ملامح المواجهة ككرة نار تتدحرج نحو حربٍ ثانية ولو غير مفتوحة، في ظلّ دولة تُسقط تل أبيب وواشنطن مبادراتها قبل أن تكتمل، وسلاح ما زال خارج الإطار الوطنيّ، وإقليم يعيد ترتيب خرائطه بسرعة تكاد تلامس التحوّل التاريخيّ. وبالنتيجة، لم يكن الاغتيال حدثًا هامشيًّا، بل جرس إنذار يدقّ من باطن الضاحية، ينذر، مع أملٍ خافت بأن يسقط هذا الترجيح، وبعد اختتام زيارة الحبر الأعظم لربوعنا اللبنانيّة، بزمن آتٍ أشدّ سوادًا وبلاد تُترك معلّقة فوق خط نار حالك ومدمّر.



