تحليل السياسات

صمود سورية وعودة العرب: الواقع الجيوسياسي

الدكتور ميلاد السبعلي

نظرة الغرب للعرب أنهم أغنياء لكنهم لا يفقهون شيئاً في الجغرافيا السياسية والاستراتيجية، وسريعي الانفعال، تحكمهم الغرائز وردات الفعل العنيفة والعناد والديماغوجية، ويعانون من ضعف في الفكر العملي البراغماتي، الذي يمتلك الشجاعة للعودة عن الخطأ عند اكتشافه.

ومع الوقت تكتشف أن القوى الإقليمية مثل ايران وتركيا تشارك الغرب لهذه النظرة. لذلك، كان من السهل تشكيل شبه إجماع عربي على السير في دعم ما سمي بالربيع العربي، مع أنه أول ما استهدف اثنين من أنظمة التطبيع مع الغرب، هما تونس ومصر. وفجأة تحول النظام في الشام الى سبب كل أزمات العرب وسبب تخلفهم. فجمدوا عضوية سورية في الجامعة العربية وأغدقوا المليارات لتدميرها، مع أنها كانت في تفاهمها مع مصر والسعودية تشكل الثلاثي الوحيد في العالم العربي الذي يمكن أن يوجد توازناً في الإقليم وحضوراً للعرب على الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط، خاصة مع نهوض كل من تركيا وإيران وكيان العدو الإسرائيلي..

غير أن هذه الدول الثلاث، كانت تنتمي الى محاور متناقضة، فمصر والسعودية تسيران في ركب التحالف مع أميركا والغرب والتطبيع مع إسرائيل، فيما الشام تسير في ركب المواجهة فيما سمي محور الممانعة والمقاومة. وكان المحور الغربي يجهد لنقل العداء العربي من إسرائيل الى ايران، واعتبار إسرائيل عامل ازدهار وقوة للمحور العربي المطبع معها، الى حد اعتبار هذا المحور في 2011 ان الوقت قد حان للتخلص من النظام السوري المتحالف مع ايران، حتى لو من خلال ضرب آخر تحالف قوة عربي، واستبداله بالعامل الإسرائيلي والدعم الغربي، في مواجهة العداء الإيراني والتنافس التركي على زعامة العالم الإسلامي.

وكان الرئيس الأسد قبل ذلك في 2010، في قراءة للتوازن الجيوسياسي في المنطقة، تحدث عن فضاء البحار الخمسة، (المتوسط والاحمر والخليج وقزوين والاسود) الذي يضم ايران وتركيا والشام، وربما العراق. وقد قرأ العرب هذا التوجه بأنه تخلٍ عن التحالف مع مصر والسعودية، وبنفس الوقت تحالف مع الخصم الإيراني والمنافس التركي. مما زاد اندفاعهم باتجاه تسريع تشكيل محورهم الجديد، الذي بدأ يتخذ شكل تحالف دول حوض البحر الأحمر، كما يحصل حالياً في اجتماعات الرياض الأخيرة. وكنا قد كتبنا أكثر من مقال منذ سنوات عن تشكل قطب تنموي استراتيجي في البحر الأحمر عنوانه تطبيع دول حوض البحر الأحمر مع إسرائيل.

وكان للحرب على سورية هدف أساس هو إزالة النظام الحالي وإقامة نظام في الشام متحالف مع هذا المحور المطبع مع الغرب وإسرائيل، لأن ذلك يدخل معظم منطقة الهلال الخصيب في هذا المحور ويريح دوله ويعطيها عمقاً جغرافياً وقومياً وساحة مواجهة أمامية مع إيران وتركيا. وجاء انتخاب ترامب في أميركا واصراره، مثل أي رئيس أميركي جديد، على محاولة حل المسألة الفلسطينية بما يخدم المشروع اليهودي، فكان ما سمي بصفقة القرن محرك إضافي لدعم تشكل الحلف الجديد المطبع.

في المقابل، كان التركي يحاول عبر جماعة الاخوان المسلمين والتحالف مع إدارة أوباما، تعويض خسارته في معركة الانضمام الى الاتحاد الأوروبي باستعادة نفوذه في منطقة السلطنة العثمانية السابقة، من خلال تبني وقيادة “الربيع العربي”. وقد حقق نجاحات لا يستهان بها في البداية، في تونس ومصر وليبيا، ونجح الى حد كبير في تهميش السعودية والامارات على حساب تعويم قطر وتسليمها قيادة وتمويل “الربيع العربي”. لكن التعثر في الشام كان له انعكاسات سلبية على تونس ومصر، وعلى الوضع العربي بالمجمل، حيث تراجع الدور التركي القطري الى الصفوف الخلفية، وعاد المحور السعودي الاماراتي الى اخذ المبادرة واستعادة مصر وتونس، ومتابعة قيادة المعركة ضد سورية. غير أن هزيمة هذا المشروع هناك اضطرت الأميركي والتركي الى التدخل العسكري المباشر للحفاظ على بعض المكاسب التي يمكن التفاوض عليها في المراحل النهائية للأزمة. وبذلك، انهار الحلم التركي باستعادة النفوذ على مناطق السلطنة العثمانية وقيادة العالم الإسلامي، تحت وطأة الهزيمة في الشام، وتقلص الى مجرد الحفاظ على بعض النفوذ في بعض مناطق الشمال، مما اضطر اردوغان لتحويل اهتمامه الاستراتيجي الى الشرق، الى جمهوريات وسط آسيا التركمانية، التي يتشارك معها في الاساس العرقي التركماني وفي الدين الاسلامي. كما يتشارك فيها النفوذ مع الروسي، الذي يغطي الشؤون العسكرية والأمنية والاستراتيجية هناك، والصيني الذي يشكل العمق الاقتصادي والمالي، والايراني والهندي بنسب أقل، كشركاء في الموقع الجغرافي وخطوط النقل والحركة الاقتصادية.

ويهدف التركي بذلك الى استغلال الموقع الجغرافي الاستراتيجي لبلاده كرابط أساسي بين الشرق الاسيوي وأوروبا، وفي قلب طريق وحزام الحرير، وهو المشروع الصيني العملاق الذي يغطي 68 دولة بكلفة تريليون دولار، لتعزيز التجارة والتنمية بين آسيا وأوروبا، دون الخضوع للهيمنة الأميركية على البحار.

هذا الانزياح في الاستراتيجية التركية نحو الشرق، يرافقه توجه إيراني شرقي ايضاً. فأكثر من ثمانين بالمئة من تجارة ايران وحركة صادراتها هي مع الهند والصين ودول آسيا الوسطى. وهي تستفيد من التنافس الهندي الصيني ايضاً. فقد قامت الصين باستثمارات ضخمة في مرفأ غوادار في باكستان، وفي خط نقل سككي سريع من غرب الصين الى هذا المرفأ، مما يوفر لها خطوط نقل حيوية من شانغهاي الى بحر العرب دون المرور في جنوب شرق آسيا والمضائق الاندونيسية والماليزية والدوران حول الهند، وكلها مناطق تتأثر بهيمنة البحرية الأميركية. في المقابل، استثمرت الهند في مرفأ شاباهار في جنوب شرق ايران على بعد حوالي 80 كيلومتر من مرفأ غوادار، وفي خط سكك حديدية سريع بين شاباهار وكابول في أفغانستان. وتتضمن الخطط الهندية الإيرانية الروسية المشتركة إقامة كوريدور للنقل والتجارة جنوب-شمال بين جنوب ايران وروسيا، من خلال حوض بحر قزوين. كما استثمرت الهند في خطوط بحرية لنقل الغاز والنفط الإيراني الى الشواطئ الغربية للهند.

في المقابل، تسعى ايران الى بناء كوريدور آخر الى غرب الصين، عبر دول آسيا الوسطى في تركمنستان واوزبكستان وكيرغستان وطاجاكستان. عدا عن تعزيز علاقتها مع تركيا حيث يصل التبادل التجاري السنوي بين الدولتين الى 30 مليار دولار.

هذا لا يعني انسحاب ايران وتركيا كلياً من منطقة الهلال الخصيب، فالتبادل التجاري بين ايران والعراق وصل الى 20 مليار دولار سنوياً في السنوات الأخيرة (وبين ايران ولبنان مليوني دولار!)، عدا عن النفوذ التي تسعى ايران (وتركيا الى حد ما) أن تبقيه لها في بلدان المشرق العربي، خاصة أن مسائل الشيعة وفلسطين تشكل اساساً في خطابها الأيديولوجي. لكن هذا العرض يؤدي الى الاستنتاج أن أولويات الدولتين الجيوستراتيجية هي في وسط وشرق وجنوب آسيا، وبين بعضها، أكثر منها في المشرق العربي.

كما يتوافق هذا التوجه في مجال التجارة الدولية مع التوجه في مجال تجارة الغاز وانابيبه. حيث تسعى تركيا أن تكون عقدة ربط بين ايران وروسيا ودول بحر قزوين من جهة، وبين أوروبا من جهة أخرى. فيما تسعى ايران الى مد أنابيب الغاز شرقاً، الى الهند والصين عبر دول وسط آسيا، حيث أسواقها الأساسية. وقد وقعت اتفاقية مع الشام لإيصال انابيب الغاز الإيراني عبر العراق والشام الى المتوسط.

هذا يعني أن صمود سورية، الذي أدى الى تغيير جيوستراتيجي في السياسة التركية والعربية-الأميركية، أدى الى مساحة لا بد من ملئها من قبل قوى عربية، قوامها تحالف سوري-عراقي يتناغم معه اقتصادياً مع الوقت كل من لبنان والأردن. وقد تكون هذه المرة الأولى منذ استقلال البلدين، التي يمكن فيها بناء تحالف بين دمشق وبغداد، يستطيع ان يجتذب اليه لبنان والأردن ودولة فلسطين. وهذا يشكل نواة لاتحاد مشرقي اقتصادي سياسي دفاعي، يؤسس لقوة عربية توازن نوعاً ما القطبين التركي والإيراني، والى حد ما قطب البحر الأحمر الذي يطمح أن يضم إسرائيل.

من هنا، جاءت القراءة الإماراتية والمصرية، أن العودة الى سورية تساعد على تعزيز هذا المحور العربي المشرقي من خلال الحد من النفوذ التركي والإيراني هناك. وقد استهجن الكثير من المراقبين هذه القراءة. ولذلك يمكن القول، أنه في ظل تعثر أو تأخر التطبيع مع إسرائيل وضمها الى محور البحر الأحمر سريعاً، يبقى أمام عرب هذا المحور، التطبيع مع سورية، ومن خلالها مع المشرق العربي، ولو مرحلياً، لأن ذلك يعطيهم مكانة على الخريطة الجيوستراتيجية، بعد مرحلة فقدان الوزن التي عانوا منها نتيجة تسرعهم في المراهنة اسقاط الدولة السورية مقابل تسريع التطبيع مع إسرائيل…

فقد اكتشف العرب مؤخراً أن العودة الى سورية بالنسبة لهم يعني العودة الى تشكيل ثقل جيوسياسي. وكل ما عدا ذلك يعتبر خسائر جانبية Collateral Damage. لذلك نرى التسابق على إعادتها الى الجامعة العربية وإعادة تطبيع العلاقات معها. ولذلك تحدث ترامب عن تمويل السعودية لإعادة إعمار سورية…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى