لم تحجب ضراوةُ العاصفة «نورما» وصقيعُها «حماوةَ» المنازلةِ السياسيةِ التي عاد معها ملف تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان الى «ما دون الصفر» وسط علامات استفهام كبرى حيال مغزى هذا «الارتداد» على المسار الذي كاد أن يُفْرِج عن التشكيلة الحكومية الموعودة بين عيديْ الميلاد ورأس السنة.
وفيما كانت «العدساتُ» مشدودةً الى صورِ العاصفة الهوجاء وما «رسمتْه» على المرتفعات (ابتداء من نحو ألف متر) من لوحاتٍ بيض وما خلّفتْه رياحُ الما فوق مئة كيلومتر في الساعة من أضرار في أكثر من منطقة، انشغلتْ الأوساطُ السياسيةُ بالتحرّي عن سرّ «أمْر العمليات» الذي نَقَلَ عقدة «المربع الأخير» في عملية التشكيل من كونها بين «التيار الوطني الحر» وبين «حزب الله» الى محاولة رمي كرتها في ملعب الرئيس المكلف سعد الحريري.
وبدا من الصعوبة بمكان الجزم بخلفيات تلاقي «التيار الوطني الحر»، عبر قريبين منه، و«حزب الله» على تحميل الحريري مسؤولية ايجاد حلّ لعقدة تمثيل النواب السنّة الستة الموالين للحزب، في ظلّ سؤال مزدوج: هل الاندفاعة بوجه الحريري هي على طريقة «الهروب الى الأمام» من التصدُّع الذي أصاب علاقة التيار والحزب في صراعهما حول «الثلث المعطّل» في الحكومة عبر جعْل الحريري «بدَلاً عن ضائع» في مواجهتهما غير المسبوقة، أم أن هذه الاندفاعة هي تحت سقف «تفاهُم خفي» متعدّد البُعد بين التيار والحزب وعلى صلة بمتغيرات إقليمية؟
وتذكّر الأوساط السياسية في هذا السياق، بأن الحريري كان التزم بما عليه إبان المبادرة الأخيرة لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون حين وافَقَ على مبدأ تمثيل «مجموعة الستة» في الحكومة في موازاة قبول أعضائها بأن يتوزّروا عبر شخصية قريبة منهم وسير عون بأن يكون هذا الوزير من حصته، قبل ان تتعرقل المبادرة بفعل رفْض «حزب الله» ان يكون ممثّل النواب السنّة الموالين له جزءاً من تكتل باسيل (المحسوب على رئيس الجمهورية) وملتزماً بقراراته بما يجعل فريق عون يُمْسِك عملياً بالثلث المعطّل، وتالياً فإن معاودة «فتح النار» السياسية على الرئيس المكلف باتت تستدعي طرح سؤال مزدوج آخر:
هل ان «أصْل المشكلة» في الملف الحكومة يقتصر على أن باسيل لن يسير بأي حكومة لا ينال فيها الثلث المعطّل وان «حزب الله» لن يقبل بأي تشكيلة تمنح رئيس «التيار الحر» منفرداً «مفتاحاً تقريرياً» في الحكومة واستحقاقات دستورية أخرى (مثل رئاسة الجمهورية)، أم أن وراء إعادة مسار التأليف الى «غرفة الانتظار» أيضاً أبعاد أخرى تتصل برغبة الحزب بالاستمرار في تعليق الوضع اللبناني ربْطاً بالتحولات في المنطقة وبينها التطورات في سورية وآفاق مساعي العودة العربية إليها على متن محاولة متجددة للفصل بين نظام الرئيس بشار الأسد وإيران.
وفيما كان لافتاً أمس ربْط زعيم «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط التعثر الحكومي بوجود «حملة مبرمجة من أبواق النظام السوري لتعطيل تشكيل الحكومة تارة عبر التشاور وتارة أخرى عبر بدعة زيادة وزيرين وغيرها من الحجج الواهية»، مشيراً الى أن «كل ذلك لتعطيل القمة الاقتصادية وتدمير مناعة الجسم اللبناني لمزيد من الهيمنة»، فإن القمة التنموية المزمع عقدها في بيروت في 20 الجاري صارت جزءاً من المسرح السياسي للأزمة الحكومية وسط التعاطي معها لبنانياً بخلفيتيْن: الأولى ترى فيها مناسبةً لتجديد الثقة بلبنان ودوره في المرحلة الجديدة في المنطقة وفي الوقت نفسه تأكيد المظلة العربية للواقع اللبناني بوجه مظاهر النفوذ الإيراني في «بلاد الأرز» عبر «حزب الله» والتي كانت عبّرت عن نفسها بوضوح بعيد الانتخابات النيابية بكلام الجنرال الايراني قاسم سليماني عن «انتصار«حزب الله»بـ 74 نائباً ودعوته الى«حكومة مقاومة».
أما الخلفية الثانية فتقارب القمة على أنها باب لعودة سورية الى المشهد اللبناني والعربي الواسع، ومن هنا المطالبات المتصاعدة من«حزب الله»وحلفاء له بدعوة سورية اليها بمعزل عن قرار من الجامعة العربية باستعادة مقعدها فيها.
وإذ ترصد الأوساط السياسية نفسها في هذا السياق اجتماع الجامعة العربية على مستوى المندوبين في القاهرة بعد غد وما سيصدر عنه سواء لجهة الاكتفاء بقرار يسمح بإعادة فتح سفارات الدول العربية في دمشق مع إعادة فتح سفارات سورية في العواصم العربية أو صدور قرارٍ بإعادة سورية إلى مقعدها الشاغر منذ 7 سنوات في «الجامعة» من دون انتظار موعد القمة العربية في مارس المقبل، فإن لبنان الرسمي الذي يتّجه الى دعم طلب إعادة عضوية سورية الى الجامعة في اجتماع الأربعاء لن يعمد الى دعوة دمشق الى القمة التنموية خارج قرار عربي.
وفي موازاة ذلك، برز موقف للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي سأل فيه «كيف يمكن القبول بتعطيل تأليف الحكومة بعد ثمانية أشهر من أجل مصالح النافذين ومَن معهم ومَن وراءهم»، مضيفاً: «سئم الشعب والرأي العام وعندما نسمعهم كل يوم يتكلمون عن حصص من أجل تأليف حكومة، لسنا ندري متى تأتي، تشعر كأنك أمام مشهد جثة وطن يتناتشها المنقضون عليها، ويسمون ذلك وحدة وطنية».
“الراي”
يناير 7, 2019