في ذكرى غيابه الرابعة عشرة، يستحق رفيق الحريري، رئيساً ونموذجاً وشهيداً، الوفاء. أكثر من ذلك، لا تزيد السنون ذلك التغييب المؤلم إلا حضوراً في الذاكرة والمشهد والموقع والدور، فمسيرته الوطنية والسياسية والإنمائية والعربية طبعت مراحل لا يمكن لتاريخ لبنان الحديث أن يتخطاها، وهي ستبقى، لأزمنة طويلة، شاهدة في كل عاصمة ومدينة وناحية على ما أنجز، تماماً كجريمة اغتياله الرهيبة التي ستبقى، لأزمنة طويلة أيضاً، شاهدة على الحقد والإجرام والوحشية المطلقة.
في ذكرى غيابه الرابعة عشرة، تعود تلك الصورة التراجيدية المؤلمة قرب بحر بيروت ظهيرة 14 شباط 2005 التي انطبعت في ذهن كثيرين وبات من الصعب تخطيها في المدى المنظور أو إلغاءها من عقل ووعي شريحة واسعة من اللبنانيين، وخصوصاً سُنة لبنان الذين اعتبروا منذ لحظة اغتياله أن ذلك الاستهداف لن يتقصد شخصه فقط، على أهميته، بل أنهم باتوا مستهدفين بوجودهم، وهم لجأوا لاشعورياً إلى مقارنة كل الأمور والسياسات والتطورات والهزائم، كما الانتصارات، بما باتوا يسمونه “زمن رفيق الحريري” العصيّ على النسيان.. هو يستحق ذلك.
في ذكرى غيابه، وفي لحظة التفكك الوطني، والاستهتار بالدستور، والتنكر لاتفاق الطائف، وطغيان الخطاب الطائفي والشعبوي والعبثي، وتكاثر التحديات الداخلية والخارجية، والاشتباكات الإقليمية، يحضر طيف رفيق الحريري، مذكراً بالدور الذي استطاع أن يلعبه وهو الآتي من خارج التقليد السياسي اللبناني التاريخي بأن يكون زعيماً عابراً للطوائف متصدياً بأريحية واعتداد لتبديد هواجس الآخرين، وتحمّل تبعات اللاتوازن الذي طَبَعَ مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، ومطلقاً ورشة وطنية وإعمارية وإنمائية كبرى، كانت أشبه بتأسيس جديد للبنان ما بعد الحرب.
لا يمكن الجزم بصوابية ذلك الخيار من عدمه، فالكيان اللبناني منذ ما قبل الاستقلال وبعده تأسّس على توازنات وتقاطعات وسلوكيات وحسابات وهواجس طبعت بُنيته السياسية والطائفية، واستقرت كثوابت لا يمكن تغييرها أو تخطيها بسهولة تحت أي شعار حتى لو كان حب الوطن والاعتزاز بالوطنية وخدمة الانسان.. رفيق الحريري كان اتخذ قراره بذلك.. والمجرمون أيضاً اتخذوا قرارهم الأسود. لأجل ذلك وبسبب منه، لما غُيّب رفيق الحريري بَدَت الهوّةُ كبيرةً كبيرة، وساد شعور بأن الانكسار لم يطل المرجعية فحسب، بل أيضاً الدور والتأثير وطبيعة الشراكة الوطنية. لأنه – رحمه الله – كانَ رَسَمَ سقفاً في الأداء السياسي والوطني والعربي لا يبلغه كثيرون.
أربعة عشر عاماً على جريمة 14 شباط السوداء، تغيرت فيها الحياة السياسية كثيراً، واستجدت تطورات وبدعٌ هائلة، ولألفِ سببٍ وسبب يمكن الجزم بأن النصابَ الوطنيَ الداخلي، قراراً وتأثيراً ومشاركة، غير مكتمل، في وقت يتظاهر كثيرون في سياق هروبهم إلى الأمام، أنهم غير معنيون بما يجري بحق لبنان والصيغة والعيش المشترك… وتلك جريمة ثانية.
في الحديث عن توازنات الواقع اللبناني، ومع بروز عقد كالحةٍ عند كل منعطف دستوري وسيادة منطق التعطيل وهيمنة الاستقواء، يبرز السؤال بشكل متزايد عن مصير اتفاق الطائف، فبالتزامن مع دخول الاقليم مخاضاً متعدد الاحتمالات، يبدو لبنان مقبلٌ على إفلاس سياسي ودستوري كبير، قد يؤدي الى انهيار الصيغة القائمة والدخول في المجهول. هكذا نحن محتاجون إلى لمّ الشمل ضمن الثوابت التاريخية والوطنية التي تؤكد على العيش الوطني الواحد وأساسه الشراكة الكاملة على أساس المناصفة في التمثيل السياسي، والمشاركة في بناء المؤسسات، وعماد هذه المشاركة التمثيل الصحيح والفاعل والمتوازن لكل الطوائف. ولكي يظل التوازن في النظام السياسي قائماً ينبغي العمل على معالجة أي إحساس بالغبن أو الإقصاء أو الاستقواء لأن ذلك يولد انعزالا وتطرفاً وخروجاً على مقتضيات العيش والميثاق.
في الذكرى الرابعة عشرة، وبانتظار العدالة لكل الضحايا، ستبقى الثقة بلبنانكبيرة، وسيبقى إرث رفيق الحريري الوطني والإسلامي والعربي منارة للأجيال في بناء وطنية ملتزمة، ووطن متقدم.
زر الذهاب إلى الأعلى