فن

قصة رسالة… من عمر الشريف إلى فاتن حمامة

أشرف غريب- المدن

كان عمر الشريف، المولود في 10 نيسان 1932، ومنذ أن اقترن بفاتن حمامة في أعقاب مشاركتهما في فيلم “صراع في الوادي” العام 1954، حريصاً على أن يشاركها سنوياً احتفالها بعيد ميلادها في حفلة يحضرها الأهل والأصدقاء المقربون. لكن صودف أن حل يوم 27 أيار 1958، يوم عيد ميلاد فاتن، وعمر خارج مصر، وتحديداً في بيروت منشغلاً في تصوير الفيلم العالمي “جحا”، من بطولته أمام زينة بو زيادة وكلوديا كاردينالي ولورا جازولو وآني ليغراند، ومن إخراج جاك بارتييه. فرأى الشريف أن أقل ما يمكن القيام به كي يشارك زوجته الحبيبة هذه المناسبة السعيدة أن يرسل لها من بيروت خطاباً رقيقاً يبث من خلاله عبارات الشوق والغرام مقترنة بمعاني التقدير لفنها الراقي، وهي الرسالة التي أحتفظ بأصلها ضمن مجموعة من الأوراق الخاصة بفاتن حمامة.

يقول عمر الشريف في هذه الرسالة:
“حبيبتي فاتن،
أهنئك بعيد ميلادك السابع والعشرين وأرجو أن يطول العمر بنا لأهنئك بعيد ميلادك السابع والعشرين بعد المئة وأن أقيم لك حفلة كبرى وحولنا أحفادنا وأحفاد أحفادنا يشاركوننا الاحتفال بهذا العيد.
حبيبتي لعلها أول مرة تحتفلين وحدك بهذا العيد منذ زواجنا السعيد. فأنت استطعت أن تجعلي هذا الزواج سعيداً، بعد أن حولت بيتنا إلى جنة من السعادة وجعلتيني دائمًا عاشقًا لهذه الجنة لأنك وفرت فيها كل ما أحبه في هذه الحياة، وفي مقدمتها ابتسامتك الجميلة وروعة أحاديثك وخفة ظلك. ولعلها فرصة أن أعلن لك وأؤكد أن إعجابي بك يزداد يومًا بعد يوم، لا كزوجة مخلصة فحسب بل وفنانة عظيمة. نعم أنك فنانة عظيمة.
امتزج شعوري بشعورك في التفكير واتجاه العمل لتوفير حياة سعيدة، واستطعنا أن نبني عش زواجنا السعيد على دعائم قوية من الحب والوفاء، وقد كنت دائمًا قبل زواجي منك أرى أن الزواج شيء رفيعً يبعد عن الأنانية، ويتركز في الاندماج الروحي، وبعد زواجنا تأكد لي صحة هذا الرأي، فزواجنا قام على الحب في أجمل صوره، وعاش يتغذى من الإخلاص وتظلله المودة والوفاء ويزداد حبنا رسوخًا في قلبينا.
ولعلها فرصة لأقدم شكري لك على تفانيكي في رعاية شؤون بيتنا وأنت ست بيت ممتازة وليست هذه الصفة هي الصفة الوحيدة التي تعجبني في شخصيتك، فأنت صاحبة أنقى نفس وأطيب قلب.
تحياتي وقبلاتي إليك في عيدك السابع والعشرين، وقبلاتي للعزيزة نادية وأملي السعيد طارق.
زوجك المخلص على الدوام
عمر الشريف”.

انتهت رسالة عمر الشريف التي بعث بها من لبنان إلى زوجته – في ذلك الوقت – فاتن حمامة في أول عيد ميلاد لها بعد مجيء ابنهما طارق المولود العام 1957، ولذلك استخدم عمر عبارة “وأملي السعيد طارق”. ويلفت الانتباه هنا أن الشريف لم يتحدث في رسالته عن ظروف عمله في الفيلم الذي يصوّره في بيروت، فقد أرادها رسالة شخصية خاصة لا تخرج عن معاني الحب والتقدير، وهو ما اعتاده دائماً في كل مرة تحدث فيها عن فاتن حتى بعد انفصالهما في منتصف السبعينيات. هاكم – مثلاً – هذا المقال الذي كتبه بنفسه لمجلة “الكواكب” في الثاني من آب 1960 تحت عنوان “زوجتي فاتن حمامة” وقال فيه:

“أول مرة رأيت فاتن كانت عن بعد، كنت في زيارة الى الاستديو، وأشار زميل إليها. وقال لي هذه هي فاتن، فاتن التي طالما أُعجبت بفنها. ويومها لاحظت عليها البساطة. منتهى البساطة. ومضت الأيام وأُتيح لي أن أقف أمام فاتن حمامة لأقوم بدوري في فيلم «صراع في الوادي» ويومها امتلأت رهبة من الموقف، لكني عندما التقيت فاتن فى غرفة المكياج وبادلتها التحية، استطاعت بلباقتها وبساطتها أن تشعرني بأن صداقتنا هذه لیست بنت هذه الساعة، وبثت في نفسي أننا زميلان متكافئان، فأنستني أنني أعمل لأول مرة أمام الكاميرا. ولم يمضِ أسبوع واحد على العمل معاً في الفيلم حتى توطدت صداقتنا فكنا نتحدث في كثير من الشؤون الفنية.

وربطت المقادير بين قلبينا برباط الحب الذي توجناه بالزواج، فكانت أسعد لحظات حياتي اللحظة التي ضغطت فيها على يد فاتن بعد عقد القران وأنا أقول لها «مبروك زواجنا». وقبل أن أتزوج «فاتن» وعندما وقفت أمثل أمامها أول مرة، سألني المخرج يوسف شاهين: «ما رأيك فيها؟» فقلت له إنني لا أعتقد أن هناك ممثلة عظيمة كهذه الفنانة.

وبعد أن عدت مع فاتن من باريس بعد شهر العسل، سألني صديق: ما رأيك في الزواج؟ فقلت: «إنني أسعد زوج في الوجود».

ومضت الأيام وأنا ما زلت على هذين الرأيين. أن فاتن أعظم فنانة، وأنها أكمل زوجة. كلما أشرق علينا يوم جديد طالعتني بسعادة جديدة. ونجاح فاتن على الشاشة يرجع إلى فهمها الدقيق للطبيعة البشرية، وهناك مواقف لم تتعرض لها فاتن في الحياة الواقعة، ولكنها إذا طلب إليها أن تمثلها أتقنت أداءها بصورة تدعو إلى الدهشة، ومرجع هذا إلى صدق فهمها للطبيعة البشرية وإلى إحساسها بالإنسانية إحساساً بالغ الدِّقَّة.

في فاتن میزة قلّ أن تحظى بها فنانة. فهي دقيقة الحكم على نفسها، لا تخدع نفسها وتجاملها، فهي تشاهد أفلامها عدة مرات قبل عرضها على الجماهير وتدوِّن ملاحظاتها ونقدها لنفسها في ورقة صغيرة، غير متساهلة في أية هفوة. وإني لأذكر أنني سمعتها مرة ونحن نشاهد أحد أفلامها في عرض خاص، تقول محدثة نفسها:

«ليه الحركة دي؟ ماكانش لها لزوم أبداً».
فقلت لها فى دهشة: «حركة إيه؟»
 قالت: “حركة الكلمة دي. كثير بأغلط وأعملها في الأفلام”.

قالت هذا في بساطة، وفي إيمان الناقد الواثق من قدرته على وزن العمل الفني بميزان دقيق، لا شك في أن «فاتن» تدرك عن يقين أنها ممثلة عظيمة، وأنها موهوبة، بل وعبقرية، ومع هذا فإنها لم تسمح لنفسها بأن يتسلل إليها الغرور. إنها تقابل النجاح والتصفيق والهتاف بابتسامة رضا بعيدة من الكبرياء، تقابلها كنتيجة طبيعية لما بذلت من جهد.
وفاتن كزوجة فيها من المزايا ما لا يجتمع بعضه في عشرات من السيدات.
فيها النعومة الرقيقة، فيها الحنان الفياض، فيها الأنوثة الساحرة، والابتسامة الجذابة، الابتسامة التي أتفاءل بها دائماً، والتي لم تخذل تفاؤلي أبداً. وأروع ما في فاتن الزوجة أنها تبعث الأمل في صدري في أدق المواقف حرجاً، وتطرد اليأس في أشق الظروف، فهي كالشمس تشرق فتبدّد وحشة الغيم والظلام. ولا أنكر أن «فاتن» تغار أحياناً لأنها أنثى. ولكن غيرتها مبصرة، وقد تكشر عن أنيابها، ومع هذا فهي لا تخرج عن طبيعتها السمحة، الطيبة، الخيرة.

وفاتن ككل إنسان لها عیوبها. ومن أبرز عيوبها «الوسوسة»، خاصة في ما يتصل بفنها، تفكر ألف مرة قبل أن توافق على قصة يطلب منها تمثيل دور البطولة فيها، وتفكّر ألف مرة قبل أن توافق على السيناريو، وترهق نفسها بقراءة السيناريو قبل أن تقول «نعم». وأعتقد أن هذا العيب له ما يبرره فإن «فاتن» لم تصل لمكانتها إلا بجهد شاق طويل قطعته بصبر وإيمان علی قدمين ناعمتين، لا تريد أن تهبط عن هذه المكانة، لأنها طبعت على أن تنشد الكمال.
إنني فخور بفاتن الفنانة، وفاتن الزميلة، وفاتن الزوجة، وإنها لجديرة بما نالته من تقدير الشعب، وبما أسبغته عليها الدولة من تقدير”.

وهكذا آثر عمر الشريف ألا يتحدّث حتى عن طباعه في التعامل مع فاتن حمامة مكتفيا بإبداء رأيه فيها كفنانة وزميلة وزوجة على حد تعبيره، وهو في هذا يكشف عن جوانب ربما لم يكن جمهور فاتن يعرفها عنها على الأقل حتى ذلك الحين، أما فاتن نفسها فقد ظلت على تحفظها المعتاد وهي تتحدّث عن ارتباطها بعمر الشريف حتى إنها لخصت علاقتها به في جمل بسيطة – من دون الدخول في أية تفاصيل – أنهت بها مذكراتها الوحيدة التي كتبتها لمجلة “الكواكب” في أيار 1956 وأعاد مركز الهلال للتراث نشرها قبل عامين حيث قالت:

“وكنت أقوم ببطولة فيلم «صراع فى الوادي» حين التقيت بزوجي الثاني عمر الشريف. وبدأ القدر يفتح صفحة جديدة في حياتي، بعد اللقاء الأول مع عمر، فبعد عامين من هذا اللقاء كان عمر يجلس أمام المأذون مع والدي ليوقعا وثيقة زواجي. وأنا اليوم زوجة سعيدة للغاية، وأمّ سعيدة إلى أقصى حد، وهذا ما أتمناه لكل منكم”.

ومهما كانت ملابسات زواج فاتن حمامة وعمر الشريف والضجة التي أثيرت بعد انفصالها عن زوجها الأول عز الدين ذو الفقار، ومهما كانت تفاصيل ما حدث بعد ذلك وكيف تسلل البرود إلى العلاقة مع عمر الشريف التي حرص طرفاها على إظهار دفئها للعلن حتى انفصالهما الهادئ في منتصف السبعينيات، فإن قصة ارتباط عمر وفاتن ستبقى أقوى قصص العشق والغرام التي عرفتها الأوساط الفنية وأكثرها إثارة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى