
لعل من أهم أبجديات استهلال مقاربة الأحداث التاريخية الهامة الإشارة إلى الرؤية والفلسفة اللتين يحتكم إليهما صانع الحدث. وعليه، يمكن القول إن من أبجديات استهلال مقاربة الاتفاق السعودي – السوري الذي تم منذ أيام على إعادة العلاقات المقطوعة بين طرفيه منذ عام 2011 تتمثلُ في الإشارة إلى الفلسفة التي ترتكز إليها الدبلوماسية السعودية في تحركها نحو مثل تلك الاتفاقات الاستراتيجية ذات الطابع الإقليمي والدولي منذ تبني ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الرؤية التنموية الشاملة 2030.
تستند تلك الفلسفة -ضمن ما تستند إليهِ- إلى مبدأين مهمين أولهما: الاحتكام في مقاصد أي تحرك دبلوماسي وأهدافه إلى كل ما من شأنه أن يخدم أهداف تلك الرؤية التنموية الشاملة، وثانيهما مراعاة مبدأ التراتبية التي يقتضيها إبرام مثل تلك الاتفاقات؛ إذ إنه -وفق ذلك المبدأ- قد يمهد اتفاقٌ دولي ما ناجحٌ مع طرفٍ دوليٍّ ما الطريقَ أمامَ العديد -بعده- من الاتفاقات الناجحة مع أطرافٍ دوليةٍ أخرى، في ظل ما تفرضه التعالقات والتقاطعات بين الملفات المختلفة التي يتم بحثها فيما هو سابقٌ وما هو لاحقٌ من تلك الاتفاقات ووفق ما يمليه موقع الأطراف المتفاوض معها في خريطةِ النفوذ ومدى تأثير أحدها في الآخر، الأمر الذي يتجسد بوضوح في هذا الاتفاق. فقد جعلت الدبلوماسية السعودية من اتفاق الرياض وطهران الذي سبقه في بكين إرهاصاً له، الأمر الذي أكدته تصريحات وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إثر اتفاق بكين (حين أكد أن الوضع في سوريا لا يحتمل الاستدامة وأن المقاربات الجديدة في المنطقة تحتم إنشاء حوار واسع مع دمشق، وأنه لا بد من تجاوز التحديات بشأن اللاجئين والوضع الإنساني داخل سورية).
ويكمنُ باعثُ الإشارة إلى فلسفة التحرك الدبلوماسي السعودي التي قادت إلى إبرام ذلك الاتفاق مع دمشق في ما تؤكده تلك الإشارة بشأن الدبلوماسية السعودية؛ إذْ تؤكدُ نقطتين مهمتين بشأنها تتمثل أولاهما في وعي الدبلوماسيةِ السعودية كون الكثير من الملفات المأزومة في المنطقة لا يمكنُ حلُّها بمعزل عن طهران، لا سيما الملفات الأمنية وملف المخدرات التي تدخل إلى دول المنطقة عبر جهات موالية لإيران في سوريا وفي بعض الدول الأخرى، بينما تتمثل ثانيتهما في قناعة المفاوض السعودي، ومِنْ ورائِهِ القيادة السعودية، بأن الحرب بين نظام الأسد وميليشيات المعارضة في سوريا ما تفاقمت وما ازدادت حدةً وشراسةً إلا نتيجةَ التنافس بين السعودية وإيران داخل النطاق السوري، ذلك التنافس الذي تريد المملكة أن تتحول به إلى توافق يفضي إلى تحقيق مصلحة الجميع.
وعليه، وفي ضوء تلك الإشارة، يمكن القول إن هذا الاتفاق الثنائي على إعادة العلاقات الدبلوماسية بين طرفيه يفتحُ البابَ مُشرعاً على ما بعده من التعاون المنتظر في العديد من الملفات ذات البعد الإقليمي، لا سيما ملف العلاقات الاقتصادية؛ وذلك لأنه يأتي (أي الاتفاق) -كما سبقت الإشارة- في إطار ما تمليه الرؤية الاقتصادية التنموية الشاملة للمملكة العربية السعودية التي يتبناها الأمير محمد بن سلمان، تلك الرؤية التي أملت -من قبل- الاتفاق الكبير بين الرياض وطهران الذي تم برعاية بكين والذي فتح الطريق نحو هذا الاتفاق ومهّد له، وذلك انطلاقاً من أنه ليس ثمة خطة اقتصادية إلا ولها تعالقاتها مع ملفات متنوعة مثل ملف العلاقات الخارجية وملف الأمن القومي وتأمين الحدود مع دول الجوار ونحو ذلك من الملفات التي تدرك القيادة السعودية أن حلّها يتطلب المضي قدماً في مثل تلك الاتفاقات، ذلك الإدراك الذي أيدته وأكدته شواهد الواقع في اليمن منذ الاتفاق مع طهران في بكين، إذ بدأت المساعي الجادة لوقف الحرب في اليمن نتيجة ذلك الاتفاق، وإذ ترهص التحركات والأحداث بحل مشكلة النازحين جراء تلك الحرب وعودة الاستقرار والأمن الذي غاب هناك منذ 2011، ومن ثم عودة الاستقرار والأمن إلى الحدود اليمنية السعودية.
ولعل من الأهميةِ بمكانٍ الإشارة إلى أنَّ هذا الاتفاق الذي يُعدُّ وليداً لاتفاق بكين هو إرهاصٌ قويٌّ لعودة دمشق إلى حضن الجامعة العربية الذي غابت عنه منذ عام 2011؛ إذ إن من المنتظر تبعاً لهذا الاتفاق وضع الملف السوري على جدول اجتماع الجامعة المقر عقده في السعودية في أيار (مايو) المقبل.
وإنْ كان ثمَّةَ إيجازٌ تفرضهُ خواتيم القول بشأن مقاربة الدوافع والمقاصد المتوخاة من هذا الاتفاق التي حدت بالرياض للتحرك نحوه، أو ثمَّةَ إضافةٌ إلى دوافعه ومقاصده، فإنَّهُ يمكن القول إن من أهم تلك الدوافع والمقاصد – بالإضافة إلى ما تمَّ ذكره من الملفات المُتوَخّى حلّها في إطاره- رغبة الرياض في أن تحقق في سوريا نفوذاً وحضوراً موازياً للنفوذ الإيراني هناك في إطار ما تمليه عملية توازنات القوى في المنطقة (في ظل ما حققته طهران من نفوذ منذ 2011 عبر مساندتها بشار الأسد ضد فصائل المعارضة في الحرب الأهلية التي تقول شواهد الواقع أنها آلت إلى انتصار الدولة وهزيمة الفصائل) من جهةٍ، وفي إطار ما تمليه خطط المملكة ورؤيتها الاقتصادية الشاملة من أهمية الأخذ بأسباب التحرك نحو حجز نصيب في عملية إعمار سوريا ومد جسور التعاون الاقتصادي معها مجدداً من جهة أخرى.