العتمة تنتشر منذ يومين من دون أفق لحل قريب. حتى الحلول صارت تقاس نتائجها بالايام. إذا حلّت مشكلة ولدت أخرى. من تأخر شحنات الفيول إلى تأخر فتح الاعتمادات إلى تشدّد المصارف المراسلة واستمرار مصرف لبنان في اتخاذ القطاع رهينة لحث الحكومة على ترشيد الدعم. كلها أمور تؤدي إلى خيار وحيد: التأقلم مع التقنين المتزايد. حتى الخبر الإيجابي الوحيد المتمثل بإطلاق مناقصات الفيول، لن يكون بالإمكان تنفيذه قبل إقرار سلفة خزينة جديدة لم يكتمل التفاهم السياسي حولهاانحلال الدولة يترسّخ يوماً بعد آخر. لا أحد من بين المسؤولين يبالي بالنتائج المترتبة على الناس. يمكن أن يخرجوا ساعات لتبرير تناولهم لقاح كورونا من دون استحقاق، لكن أحداً منهم لا يظهر ليوضح سبب التقنين القاسي للكهرباء، والذي أدى في اليومين الماضيين إلى انقطاع طويل للكهرباء ليلاً في بيروت وخارجها.
الحديث عن عودة الاستقرار إلى إنتاج الطاقة يبدو منفصلاً على الواقع. لا يمرّ يوم إلا وتطرأ مشكلة تُذكّر بأن العودة إلى الشمعة أمرٌ ممكن دائماً. أي مشكلة في القطاع لا نتيجة لها سوى انقطاع الكهرباء. «كهرباء لبنان» تؤكد أنها تلجأ إلى تخفيض إنتاج المعامل إما اضطرارياً بسبب عدم توفر الفيول أو قطع الغيار، وإما احتياطياً خوفاً من الوصول إلى الانقطاع الكلي في حال لم تعد تتمكن من تأمين الفيول. لكن ذلك التخفيض يزداد يوماً بعد يوم، حتى صار هو القاعدة. يبدو واضحاً أنه حتى المحافظة على المستوى المتدنّي أصلاً من التقنين لم يعد ممكناً. الحجج كثيرة لكنها تؤدي إلى النتيجة نفسها: قطاع الكهرباء بالكاد كان يعمل في «أيام العزّ»، ولذلك من البديهي أن يكون أول المتأثرين في زمن الانهيار، تماماً كما كان هو نفسه أحد أسباب هذا الانهيار.
أُرهق من كان يصدق وعود الـ24 على 24 ، حتى صار أقصى المبتغى هو الثبات على مستوى 50 في المئة من التغذية. ذلك يبدو صعب المنال، وإن تطمئن كهرباء لبنان، في بيانها الصادر أمس، إلى أنه من المتوقع تحسن التغذية تدريجياً فور المباشرة بتفريغ حمولتي شحنتي الفيول اللتين وصلتا إلى المياه الاقليمية وتنتظران فتح الاعتمادات لتفريغهما. صار واضحاً أنه إذا حلّت مشكلة فإن أخرى ستليها، وستكون النتيجة نفسها: مزيد من العتمة.
تأخر تفريغ الشحنتين أدى عملياً إلى انخفاض الإنتاج من 1400 ميغاواط إلى 1030. علماً أن الحاجة في هذه الفترة من السنة تصل إلى 3000 ميغاواط. أي أن الإنتاج كان منخفضاً أصلاً نتيجة الاحتياطات التي تجريها مؤسسة كهرباء لبنان، ونتيجة انخفاض إنتاج معملي الجية والزوق الجديدين (بسبب عدم توفر كل معدّات الصيانة)، واللذين أضيف إليهما، بسبب شح الفيول وإشرافه على النفاذ، كما أعلنت كهرباء لبنان، المزيد من الانخفاض في إنتاج البواخر التركية (مئة ميغاواط من أصل 380) وفي إنتاج معملي دير عمار والزهراني (450 ميغاواط من أصل 900).
إشارة بيان «كهرباء لبنان» إلى التحسّن التدريجي بعد تفريغ شحنات الفيول لا تدعو إلى الاطمئنان. مبررات التشاؤم عديدة، أبرزها:
– عدم اتفاق وزارة الطاقة مع مصرف لبنان على صيغة لتأمين الدولارات الطازجة لزوم «كهرباء لبنان». وبحسب نتائج الاجتماعين الأخيرين للمجلس المركزي لمصرف لبنان، فإن النتيجة بحسب مصادر المجلس: لا شيء. المصرف لم يحسم أمره بشأن الجداول التي كانت عرضتها المؤسسة عليه وتتعلق بحاجتها إلى الدولارات خلال العام 2021. بحسب المعلومات لا يزال حاكم مصرف لبنان متمسّكاً برفض دفع جزء من مستحقات المورّدين اللبنانيين بالدولار، مقابل موافقته على الدفع للمورّدين الخارجيين على الفاتورة. وهذا يعني أنه حتى الاتفاق بشأن تأمين الأموال المطلوبة لتجديد عقد الشركة المشغّلة لمعملي دير عمار والزهراني لم تدفع بعد، رغم الاتفاق في السراي الحكومي على حل المشكلة. حينها طُلب من الشركة الاستمرار في العمل رغم انتهاء عقدها، مع وعد بحل المسألة المالية العالقة.
كان رياض سلامة من بين الحاضرين وكان موافقاً على الاتفاق. وبالفعل، وافقت الشركة على «تسيير المرفق العام» لأسابيع عدة، لكن بعد مرور عشرة أيام لم يخرج أي قرار واضح عن المصرف، باستثناء ما نُقل سابقاً عن المجلس المركزي من أن الأجواء إيجابية، وأن الدفع سيتم بعد الحصول على مستندات إضافية. هذه الإيجابية لم تترجم بإبلاغ الوزارة الموافقة على المبلغ المطلوب أو حتى على أي مبلغ آخر. وهذا أمر ينعكس أيضاً على الحاجات الدولارية للشركات الأخرى العاملة في القطاع، ولا سيما شركات مقدمي الخدمات، التي لا تزال تنتظر نصيبها من الاتفاق.
ولأن ردّ مصرف لبنان طال، فقد طلبت الوزارة عكس الآية. بدلاً من أن يطلب المصرف من المؤسسة إبلاغه بحاجتها، من دون أن يصدر منه أي رد، فليعلن هو ماذا يريد، وما هي قدرته التمويلية، وبناء عليها تقرر المؤسسة توزيع أولوياتها، حتى لو اضطرها الأمر إلى وقف بعض الأعمال. لكن مصرف لبنان، كما رفض التجاوب في المرة الأولى يرفض التجاوب في المرة الثانية، بالرغم من الإبقاء على عنوان الإيجابية الذي لم يصرف بعد في أي مكان، باستثناء الاستعداد لدفع المستحقات الخارجية. ولذلك، صار المطّلعون على الملف واثقين أن الغاية من عدم التجاوب، هو الضغط على الحكومة لحثها على اتخاذ القرار بترشيد الدعم. وفيما الحكومة مستقيلة من واجباتها، فإن المصرف المركزي يرفض تحمّل المسؤولية. ولو كان المبرر هو الكلفة العالية المطلوبة وعدم قدرة المصرف على تأمين المبلغ المطلوب، لكان وافق على ما عرض عليه من أكثر من طرف بإلغاء تأمين الدولارات لباخرتي مازوت (ما يعادل 70 مليون دولار) مقابل تأمين الحاجات الماسة للقطاع، علماً أن الاتفاق مع الشركة المشغّلة لدير عمار والزهراني وافقت على تقسيط مستحقاتها على 14 شهراً.
– عدم حسم مسألة إقرار سلفة الخزينة المخصصة لكهرباء لبنان. وبالرغم من أن مختلف الأطراف يؤكدون أن لا بديل عن إقرار قانون إعطاء سلفة خزينة إلى المؤسسة، بما يضمن استكمال الحصول على الفيول لزوم تشغيل المعامل. إلا أن المؤسسة لا يمكنها العمل بالنيّات. وتؤكد مصادرها أنها ملزمة التعامل مع الوضع الراهن بكثير من الحذر، ما يحتّم عليها الاستمرار في سياسة التحفّظ في الإنتاج تحسباً لأي طارئ. واللافت في هذا السياق أن إدارة المناقصات أطلقت أمس ثلاث مناقصات لاستجرار الفيول، بعد أن توافقت مع وزارة الطاقة على دفاتر الشروط. وبالرغم من أهمية هذه الخطوة لتأمين الاستقرار في إمدادات الفيول، إلا أنه إذا لم تُقرّ سلفة الخزينة، فلن يكون ممكناً الدفع لأي شركة تفوز بالعقد.
– حتى لو أمّن مصرف لبنان الاعتمادات المطلوبة، فإن الشركات والمصارف المتعاقدة معها، تواجه صعوبة في التعامل مع المصارف الخارجية. وفيما أشارت مؤسسة كهرباء لبنان في بيانها إلى صعوبة استكمال الإجراءات المصرفية، تؤكد مصادر مطّلعة أن المصارف المراسلة تتشدد في التعاملات المتعلقة بلبنان، وقد بدأت بتعديل آليات العمل مع المصارف اللبنانية، وهذا ما فعله مصرف JP Morgan مؤخراً، علماً أن المورّدين يرفضون التفريغ قبل حصولهم على الأموال.
ايلي الفرزلي