ثقافة ومجتمع

بوصلة أخلاقية في صناعة السياسة الاقتصادية سياسة

كتب جمال إبراهيم حيدر في "الأخبار"

كان سليم الحص بوصلة أخلاقية بكل ما للكلمة من معنى. وقد أعطى في كل موقع شغله نموذجاً يُحتذى به في المضمون والأسلوب، منهجياً ومبدئياً.

كان مثالاً راقياً لكل من يحب أن يصنع سياسة اقتصادية، ولكل من أراد أن يعمل في الشأن العام بضمير وأخلاق: مترفّع عن الفساد والمحسوبيات والزبائنية والطائفية والمحاصصة، ويؤمن بأن أفضل ما يمكن أن يتركه خلفه هو مساهماته في إنتاج الفكر وصناعة العلم وتنمية الأخلاق وبناء مؤسسات الدولة ونهضة الإنسان بمعرفة قيمته وكرامته وحقوقه.
كان مثالاً حياً لمعنى الحوكمة الرشيدة وتغليب المنفعة العامة على الخاصة في كل سياسة اقتصادية صنعها واتّبعها وفي كل قرار أخذه. لا توجد في مسيرته أي شائبة تدل على تنفّعه أو تنفع مقرّبين منه من المال العام، ولم يشهد أحد أنه تلقّى رشوة طوال حياته.
كان يعتبر أن شغل أي موقع عام ذي تأثير هو تكليف وليس تشريفاً. وكان الموقع العام، بالنسبة إليه، مساحة لخدمة الناس بعلمه واختصاصه وكفاءته وليس وجاهة بينهم وأمامهم، وأداةً لطرح وإنجاز رؤية ولتقديم رسالة تنمية اقتصادية، وليس لممارسة سلطة أو فوقية. وكان يسعى، بفكره وقوله وحركته، إلى خلق فرق إيجابي في حياة ورفاهية الإنسان لا إلى حب الظهور أو الأضواء أو الشهرة.
كان هدفه جعل الوطن مزدهراً لكل مواطنيه والمقيمين فيه، بحيث يجدون في اقتصاده مساواة وإنصافاً من خلال توفير الموارد نفسها للجميع، وإعطاء مزيد من الموارد لمن هم في أمسّ الحاجة إليها. وكان همّه أن يقدّم، عبر سياساته الاقتصادية، أكبر قدر من الإنصاف ليحقق كل فرد ذاته عبر تمكينه صحياً وتربوياً، وتأمين بيئة مناسبة لتوظيف طاقته ونموّه.
كان يعمل لوطنه ولأبناء وطنه. أكثر ما هو مبهر فيه هو أنه لم يحاول أن يبهر أحداً. فكان متصالحاً مع نفسه. وبكل رقيّ، ترك عمله يتكلم عنه وجعل أخلاقه وسلوكياته تعرّف عنه. لم يسعَ وراء منصب أو دور، بل كانت المواقع دوماً تغتني به. لم يتاجر بكرامته ولم يساوم في أي منصب شغله على أيّ من مبادئه. لم يطلب جائزة بل كانت الجوائز تكبر بإضافة اسمه إليها، ولم يكبر بأي جائزة أو ثناء أو اعتراف أو تقدير من أي شخص أو مؤسسة. كبر برجاحة عقله ونير فكره وصحة عمله وأثر مساهماته وحياة إنجازاته وبضميره ورقي أخلاقه ونزاهته وعصاميته.
كان زاهداً بمغريات العمل في الشأن العام ومركّزاً على صنع وتقديم الأفضل خلال كل سياسة اقتصادية صنعها أو أعطى رأيه فيها، وأثبتت السنون بصيرته الثاقبة في عالم صناعة السياسة الاقتصادية. لم يسأل بلده عما قدّم له بل سأل نفسه عن ما قدّمه لبلده. كان كريماً بوقته مع الكبير والصغير. في بيته في منطقة عائشة بكار في بيروت، كان صنّاع سياسة اقتصادية وصنّاع رأي لامعون وتلامذة جامعيون يأخذون رأيه في مواضيع ودراسات اقتصادية يعملون عليها، وكان يجيب ويناقش الجميع بكل هدوء واحترام، ويدخل إلى عقلهم قبل أن يدعوهم بلباقة إلى فكره. وكان يثمّن الاختلاف ولا يعتبره خلافاً بل غنى فكرياً.
كان يعطي قيمة لكل إنسان يقابله. من أجمل من يعرف التمييز بين القيمة والثمن. لم ينبهر أحد بما معه بل كثر هم الذين انبهروا بما فيه. كبير جداً بقيمته وإنسانيته، وكان كل إنسان في عينه وقلبه كبيراً. متمسّك بقيم الإنسان وحقوقه الاقتصادية في عالم معولم، وخصوصاً في بلد عانى ما عاناه من استعمار فكري واقتصادي. لم يكترث لعقوبات ولا لحروب عليه خلال صناعته لأي سياسة اقتصادية، لأن الخسارة الشخصية ما كانت تعني له شيئاً أمام خسارة الوطن. رفض الهيمنة الاقتصادية ونادى بالتعاون والتكامل اقتصادياً.
من حقّ الأجيال القادمة إلى عالم صناعة السياسة الاقتصادية والشأن العام وصناعة المعرفة في لبنان والوطن العربي أن تتعرّف إلى مسيرته لتعرف أن الأمل لا يزال موجوداً بأشخاص يعملون في صناعة السياسة الاقتصادية بأخلاق وانضباط وصرامة وحب وشغف ونقاء وأمل، وفي سبيل الوصول إلى معدن الإنسان الحق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى