
لم يكنْ لبنانُ يومًا على هذا القدرِ من الهشاشةِ في ميزانِ الصراعاتِ الكبرى. فبعد أن انطفأت نارُ الحربِ الإسرائيليّة ـ الإيرانيّة، تاركةً وراءها رمادًا ساخنًا في غزّةَ وجنوبِ لبنان، يعودُ الملفُّ الأكثرُ حساسيّةً إلى الواجهة: سلاحُ حزبِ الله، وهذه المرةَ من البوّابةِ الأميركيّةِ مباشرةً، وبيدِ موفدٍ يحملُ تفويضَ الحسمِ لا التفاوض، اسمه طوم بارّاك. فقد تحوّلت هذه القضيّةُ رسميًّا إلى بندٍ رئيسيٍّ في دفاترِ التفاوضِ الإقليميّ، وباتت تتصدّرُ أجندةَ واشنطن في رسمِ خرائطِ ما بعدَ الحربِ بين إسرائيلَ وإيران.
في زيارتهِ الأولى، جاء بارّاك في ذروةِ التصعيد. كانت الصواريخُ تتساقطُ فوقَ تلِّ أبيب، والطائراتُ الإسرائيليّةُ تقصفُ عمقَ إيران، والعالمُ يتأرجحُ على حافةِ مواجهةٍ إقليميّةٍ كبرى. يومها، كانت زيارتُه أشبهَ بجسِّ نبضٍ لدولةٍ تتقلّبُ بين شظايا الانهيارِ الماليِّ ورمالِ الاصطفافِ الإقليميّ. وكانت المهمّةُ الأساسيّةُ منعَ انزلاقِ لبنان إلى قلبِ المعركة، وقد نجح ذلك.
أمّا اليوم، فالوضعُ مختلفٌ تمامًا: الحربُ انتهت، وتوضّحت معالمُ الخريطةِ الجديدة: واشنطن تكتبُ نهايةَ حربٍ كبرى، وتفتحُ دفاترَ ما بعدها. المسائلُ المؤجَّلةُ طفت على السطح، والسلاحُ خارجَ الدولةِ اللبنانيّة في أوّلها. ولذلك، لن تُشبهَ زيارةُ بارّاك المقبلةُ إلى بيروت سابقتَها. إنّها زيارةٌ محمّلةٌ برسائلِ ضغط، ومهلةٍ زمنيّة، ومطالبَ موقَّعة.
لا يعودُ الرجلُ لمجرّدِ الاستطلاع، بل لانتزاعِ التزامٍ واضحٍ ونهائيٍّ من الرؤساء، بمسألةٍ كانت طوالَ العقدين الماضيين خطًّا أحمر: نزعُ سلاحِ حزبِ الله جنوبَ الليطاني كما شمالَه، ووضعُ جدولٍ زمنيٍّ دقيقٍ لحصريّةِ السلاحِ بيدِ الدولة.
في المقابل، لا يأتي بارّاك عاريًا من الضمانات، بل يحملُ تعهّدًا، باسم الإدارةِ الأميركيّة، بالعملِ على تأمينِ انسحابٍ إسرائيليٍّ من النقاطِ الخمسِ المحتلّة، ورعايةِ تثبيتِ الحدودِ مع إسرائيلَ من جهةٍ، ومع سوريا من جهةٍ أخرى، تمهيدًا لترسيمِها، وذلك بعد تبيانِ هويةِ مزارعِ شبعا، وإعادةِ الأسرى، وتوفيرِ الغطاءِ الدوليِّ لإعادةِ الإعمار، وفتحِ الأبوابِ أمام تدفّقِ المساعداتِ الماليّةِ والاستثماريّة. وكلُّ ذلك لا ينفصلُ أبدًا عن ضرورةِ إنجازِ الإصلاحاتِ الجوهريّةِ في بنيةِ النظامِ الاقتصاديِّ والماليِّ والمصرفيّ، خصوصًا تلك الآيلة إلى تجفيفِ المنابعِ الماليّةِ لحزبِ الله، لعدمِ السماحِ له بإعادةِ بناءِ قوّتِه العسكريّة.
بمعنًى آخر، تعرضُ واشنطن معادلةَ “خطوة مقابل خطوة”، لكن بلا وهم: أيّ تأخيرٍ في بندِ السلاح، يعني تجميدَ كلِّ شيء.
الرئيسُ الأميركيُّ دونالد ترامب، الذي أثنى على طوم بارّاك واصفًا إيّاه بأنّه “صديقي ومن أصولٍ لبنانيّة”، أكّد أنّه سيحاولُ تصحيحَ الوضعِ في لبنان. وأشار إلى أنّ لبنان “مكانٌ رائع، يضمّ أناسًا بارعين، وكان معروفًا بالأساتذةِ والأطبّاءِ، وله تاريخٌ لا يُصدَّق”، معربًا عن أمله في أن “نتمكّن من إعادته كذلك مرّةً أُخرى”… وذلك طبعًا وفق الرؤيةِ الأميركيّةِ للأمور.
يريدُ بارّاك ومن خلفه الإدارة الأميركيّة سماعَ الجوابِ المنتظر، لا بصيغةِ خطابٍ سياسيّ، بل بتوقيعٍ رسميٍّ على جدولٍ زمنيٍّ واضح من قبل الحكومة، مركز القرار والسلطة التنفيذيّة، تتعهّد فيه الدولةُ بإنهاءِ ظاهرةِ السلاحِ غيرِ الشرعيّ على امتداد الأراضي اللبنانيّة.
لقد انتهى زمنُ المواربة، وسقطت الذرائعُ التقليديّة. مزارعُ شبعا؟ فلْتُبَتّ هويتُها. الاحتلالُ الإسرائيليّ؟ فلينسحب. لكنّ المقابلَ يجبُ أن يكون فعليًّا: لا صواريخَ دقيقةٍ في البقاع، ولا ترسانةٍ مخبّأةٍ ما وراء وراء الحدود.
في الداخلِ اللبنانيّ، هناك حوارٌ دائرٌ بين الرؤساء، وتبادلُ أوراق، وذلك أمرٌ إيجابيّ، وربّما يحدثُ للمرّةِ الأولى بهذه الجديّة. لكنّ التمنّي يبقى بألّا يظلَّ هذا الحوارُ في حلقةٍ مفرغة. ففي الوقت الذي يترقّب بارّاكُ الردَّ اللبنانيَّ “الموحَّد”، ينتظرُ الرئيسان عون وسلام موقفَ الرئيس برّي، الذي ينتظرُ بدورِه جوابَ حزبِ الله. أمّا الحزب، فيُواصل إرسالَ إشاراتٍ متباينة، تُضفي مزيدًا من الغموضِ على موقفِه، إلّا أنّها تميلُ إلى السلبيّة أكثرَ منها إلى الإيجابيّة، ما يعكسُ حالةً من التخبّطِ والارتباكِ المتفاقمَين في الآونةِ الأخيرة.
القرارُ لم يُتَّخذ بعد، لكنّه آتٍ لا محالة. الخشيةُ ألاّ يكون على قدر التوقّع. فإسرائيل قد تبادرُ إلى تحويلِ أنظارِ الداخلِ الإسرائيليّ، المنهكِ من الآثارِ التدميريّةِ التي سبّبتها صواريخُ إيران، في اتجاهٍ آخر، عبر خطواتٍ واندفاعاتٍ عسكريّة، خصوصًا في غزّة. والأمرُ نفسه قد ينسحبُ على جبهةِ لبنان، التي تشهدُ تصعيدًا إسرائيليًّا ملحوظًا. ويُخشى من أن تلجأَ إسرائيلُ إلى تسخينٍ أكبر، في وقتٍ ينوءُ فيه لبنان تحت ثقلِ الملفّاتِ الداخليّةِ المتراكمة، والتي يتصدّرُها الملفُّ الخلافيُّ المتعلّقُ بالسلاحِ الفلسطينيّ وسلاحِ حزبِ الله، إضافةً إلى التهديداتِ الإرهابيّة التي بدأت تظهرُ مؤخرًا بتحرّكاتٍ رُصِدت في أكثرَ من منطقة.
واشنطن، التي تغضُّ الطرفَ عن هذه الخروقات، تفعلُ ذلك ضمن استراتيجيّةٍ أوسع. فبرغمِ ردّةِ فعلِ ترامب العنيفةِ ضدّ نتنياهو حين خرقَ وقفَ إطلاقِ النار مع إيران، فإنّ إدارةَ ترامب لا تُمانع استخدامَ التهديدِ بالحرب كورقةِ ضغط، إذا كان من شأنها دفعُ لبنان إلى الحسم.
وهنا مكمنُ الخطر: فإبقاءُ الجبهةِ مفتوحةً على الخروقاتِ اليوميّةِ، يعني وجودَ قرارٍ بعدمِ إقفالِها، واستعدادٍ لإعادةِ استحضارِ اللغةِ الحربيّةِ في أولِ ظرفٍ مناسب. والمقصودُ هنا إنهاءُ التأثيرِ الإيرانيّ على الساحةِ اللبنانيّة، بالتزامنِ مع مفاوضاتٍ أميركيّةٍ ـ إيرانيّةٍ مرتقبة.
السلاحُ على الطاولة. المهلةُ تنفد. والقرارُ، بقدرِ ما هو داخليّ، فإنّه مرآةٌ لميزانِ قوى دوليٍّ لا يرحم.
فهل يملكُ لبنان الجرأةَ ليقولَ الكلمةَ الفصل… قبل أن تُقالَ باسمه، وبالنيابةِ عنه؟