بقلم الدكتور ميلاد السبعلي
يترافق التطور المطلوب على مستوى المناهج والمقاربة، مع عملية جدية لتدريب المعلمين لإحداث تغيير جذري في طريقة التفكير وفي تحديد دور المعلم في هذا النظام الجديد. فيما نرى أن تدريب المعلمين في دول متأخرة عن الركب مثل لبنان، ما زال استنسابياً واختياراً في معظم الأحيان، خاصة في التعليم الرسمي، ولا ينطلق من الحقائق والخبرات الحديثة في علم تطوير الموارد البشرية، وتصميم برامج تدريب حديثة مرنة يتم أقلمتها مع حاجة كل معلم، لمساعدته على بلوغ المستوى المطلوب منه للقيام بمهامه التعليمية الجديدة. أما الحالة الحاضرة، برغم الجهود المبذولة، ما زالت تتسم بالعشوائية وانعدام التخطيط وغياب البيانات والقرارات المبنية على الوقائع والاحتياجات الحقيقية، لتحقيق أهداف استراتيجية وتغييرات جذرية. فالمفاهيم القديمة للتدريب، التي تعتمد على دورات مكررة مشتركة للجميع بغض النظر عن مستوياتهم واحتياجاتهم، مصيرها الفشل وضعف الإداء وضحالة النتائج، خاصة اذا كانت المواضيع المطروحة هي مواضيع ابتدائية وقديمة ومتهالكة.
دور التكنولوجيا
لا يمكن إغفال دور التكنولوجيا في المنظومة التربوية الحديثة، سواء لجهة انتاج محتوى رقمي تفاعلي ذاتي الشرح للمناهج الجديدة، أو لجهة إدماج مستوى افضل من المعرفة الرقمية في كامل المناهج من الصفوف الابتدائية الى الثانوية، مع مسارات حديثة على المستوى الثانوي متخصصة في مجالات المعلوماتية والبرمجة والأمن الشبكي والبيانات الرقمية وادارتها وتحليلها والذكاء الاصطناعي والمجالات المستجدة، أو في مجال تأمين المختبرات التكنولوجية العادية او الافتراضية، وصولاً الى بيئة تعلم رقمية أصبحت ضرورية لدمج التكنولوجيا بالعملية التعليمية التعلّمية، لتمكين المنظومة التربوية برمتها للتكيف مع احتياجات واساليب وسرعات المتعلمين بنفس الصف. كما أن للتكنولوجيا دور كبير في تنظيم وترشيق الإدارة المدرسية وكافة الخدمات اللوجستية والخدمات والأنشطة غير التعليمية، بالإضافة الى دور البيانات والمتابعة الحثيثة لتطور الطلاب ومستوى تعلمهم، وكيفية الاستفادة من تحليل هذه البيانات في عملية تعديل وإعادة تصميم المناهج والمحتوى والمقاربات والامتحانات، وتحسين الخطط والبرامج.
تشريع التعلم الالكتروني عن بعد
إن عملية التطوير على مستوى وطني لا يمكن أن تحصل في جميع المدارس والجامعات والمعاهد دفعة واحدة. بل انها مسار مستمر من التطوير والتجريب والتعديل والتحسين للوصول الى نموذج وطني رائد للمنظومة التربوية، ترتكز الى الخصائص الوطنية، والى المعايير الدولية، للنهوض بالتربية في اي بلد، وفي لبنان تحديداً، بعيداً عن نظرية المؤامرة والتغني العاطفي بالأمجاد والقدرات والتغاضي عن التأخير والتخلف ونقاط الضعف. من هنا، لا بد من فتح كوة في سقف المنع الذي مارسته وزارات التربية في الكثير من الدول، ومنها لبنان، تجاه اختبار وتجريب وتطبيق التعلم الالكتروني عن بعد، ولو لفئات عمرية معينة واختصاصات محددة في البداية. إذ لا يمكن أن يكون هناك تطوير جذري ومواكبة للعصر بوجود المعوقات والممنوعات أمام تطور البحث العلمي وابتكار أنماط جيدية متنوعة من الأنظمة التعليمية. حيث تتم الاستفادة من هذه الابتكارات والتجارب التي تقوم بها بعض المؤسسات التربوية والتعليمية التي تختار سلوك هذا الطريق، لتعزيز وتمكين التطوير المستدام للمنظومة التربوية العامة. وهذا التشريع يمكن أن يكون على مراحل وعلى أنواع: النوع الأول هو تشريع البرامج الالكترونية المحلية، على المستويين الجامعي والمدرسي، التي تأخذ التعليم في لبنان الى مدارات وأسواق جديدة، خاصة بوجود ملايين اللبنانيين في المهاجر، وبالتالي الاستفادة من السمعة التاريخية الجيدة للتعليم اللبناني لفتح ابواب المنافسة له على مستوى عالمي وفي اسواق جديدة، خاصة على مستوى العالم العربي والدول النامية. والنوع الثاني هو وضع آليات وأطر مرجعية للاعتراف ببعض برامج التعلم الالكتروني التي تقدمها مدارس وجامعات عالمية مرموقة. وهذا ما يخيف المؤسسات التربوية المحلية حالياً، لأنه يفتح السوق المحلية أمام المنافسة العالمية، وهذا صحيح، وقد يؤدي لخسارة بعض الطلاب، لكنه بنفس الوقت يضع المؤسسات التربوية المحلية في حالة تأهب وتطوير دائم للمحافظة على تميزها وخصائصها التي تجتذب الطالب اللبناني. والنوع الثالث هو تشريع جامعات أو مدارس الكترونية جديدة، سواء محلية أو عالمية.
والجدير ذكره أن هذا التشريع، إذا نفذ بشكل مهني وتدريجي مع الحفاظ على الجودة والنوعية، يفسح في المجال أمام المنظومة التربوية اللبنانية للتطور المستدام ولفتح اسواق جديدة وتحول التربية الى قطاع منتج اقتصادياً، ليس فقط لإنتاج جيل جديد محلي قادر على مواكبة العصر، بل لترسيخ حضورها التنافسي على مستوى اقليمي وعالمي، وهذا مطلوب حتى لا تصحى متأخرة بعد عشر سنوات على وقائع جديدة مفاجئة.
خطة الاستجابة لجائحة الكورونا
بغياب كل ما تقدم، بشكل جزئي أو كامل، عن خطط ورؤية القيادات التربوية المعنية في لبنان، جاءت جائحة الكورونا، التي ترافقت في لبنان تحديداً مع جائحة الأزمة المالية والساسية، وجائحة انفجار مرفأ بيروت، واستقالة الحكومة، كانت خطة الاستجابة لهذه الأوضاع خطة ارتجالية غير تربوية، ركزت بشكل أساسي على الجوانب اللوجستية والعملانية اليومية، دون رؤية او استراتيجية واضحة، مما جعل الارتجال والتردد والعجز هي سمات سائدة، وأدى الى ضرب الناتج التعلمي للسنة الدراسية 2019-2020، والى كارثة تربوية قيد الحصول في العام الدراسي الحالي. فكانت المدارس الرسمية والخاصة تدار بتوجيهات اسبوعية فيها الكثير من عدم الانسجام. ولم يتم تأمين عدالة الوصول الى التعليم الالكتروني لجميع الطلاب نتيجة ضحالة وخلافات الوزارات المعنية. ولم يتسنَ وقت كافي وخطط مناسبة لتدريب المعلمين، باستثناء التدريب التقني على استخدام بعض التطبيقات التكنولوجية. كما كان هناك غياب تام لأية رؤية تربوية حقيقية، تخطط للانتقال الى تعلم الكتروني عن بعد بمعايير واضحة ومنهجية تدرّجية واقعية. وكان الأسهل لوزارة التربية رمي المسؤولية على المعلمين، غير المدربين ولا المجهزين بالوسائل والتجهيزات والبرمجيات والمقاربات والمحتوى المطلوب. وترك للمدارس اختيار مستويات متفاوتة من انماط التعلم عن بعد، من الطرائق البدائية من استخدام الرسائل الهاتفية وتطبيق الواتساب، الى استخدام برمجيات الصف الافتراضي، وخاصة مايكروسفت تيمز وزوم، لنقل ما كان يقوم به المعلم في الصف الحضوري الى الصف الافتراضي، وهذا اسوأ انواع التدريس عن بعد.
وكون الدولة فاشلة والحكومة مستقيلة والحوكمة غائبة والخبرات شبه معدومة، فلا أحد يجرؤ على تقييم ما تنفذه الوزارت من خطط وما ينتج عنها من مصائب أو انجازات، تمر الأيام ولا أحد يقوم بتقدير مستوى الضرر أو الخسائر التي تتسبب بها الخطط الفاشلة والقيادة الضعيفة وغير المؤهلة لمواجهة حالات استثنائية كهذه. ويزيد الطين بلة، أن الممولين الدوليين، الذين لديهم أولويات صرف موازناتهم كيفما اتفق، مع الحد الأدنى من بعض الحوكمة المحاسبية على أعمالهم، والذين ليسوا أكثر فهمها لمتطلبات التطوير التربوي من القيمين على المؤسسات اللبنانية، والذين يتعاملون بقوة المال مع موظفين مطيعين، يسهمون في التعمية على النتائج الكارثية للخطط المرتجلة، من خلال تبادل المديح وتسليك الأمور مع الجهات الرسمية المحلية، لتخفيف وجع الرأس وتحقيق اهداف مؤسساتهم، بغض النظر عن النتائج التربوية الوطنية.
خطة استراتيجية تربوية
اليوم، ونحن على ابواب مرحلة جديدة وتشكيل حكومة جديدة، لا بد من أخذ كل ما تقدم بعين الاعتبار، سواء لجهة التقييم الموضوعي لما تم انجازه، والاستعانة بخبرات وطنية وعالمية لصياغة استراتيجية تربوية جديدة، وتأمين مستلزماتها، وانجاز تطوير المناهج والمقاربات وتجهيز المدارس والبنية التحتية وتدريب المعلمين وتعديل الامتحانات الرسمية، ووضع خطة تنفيذية تدريجية تستطيع تحويل كامل المنظومة التربوية في لبنان خلال مرحلة لا تتعدى الخمس سنوات، الى منظومة معاصرة لا تقل أهمية وفعالية ونتائج عن اي منظومة تربوية عالمية متطورة. وهذا شرط أساسي للتحضير لدخول لبنان الى عصر المعرفة، وتحقيق التحول الرقمي في اقتصاده على مستوى كافة القطاعات الانتاجية والخدماتية والحكومية، إضافة الى تشجيع الانتاج المعرفي الرقمي في مجالات لم تكن موجودة سابقاً.
التربية والاقتصاد والمستقبل
التربية وتطويرها هي في أساس التنمية الاقتصادية المستدامة، لضمان مستقبل أفضل للبلاد، وتكبير حجم الاقتصاد، واجتذاب الاستثمارات المباشرة وتحقيق هجرة معاكسة للأدمغة تسهم في نهضة البلاد، وفي مساهمتها بإدخال المنطقة المحيطة بنا الى العصر الحديث واقتصاد المعرفة. وهذا بحاجة الى خطة استراتيجية تنموية وطنية، تحدد طبيعة وماهية الاقتصاد اللبناني في العقدين القادمين، ودوره في تنمية المنطقة والاستفادة من الفرص المتاحة فيها. وهذه مهمة تتعدى دور وزارة التربية، الى الحكومة مجتمعة. فتطوير أي من القطاعات يجب أن يترافق مع تهيئة الرأسمال البشري المتخصص والمدرب، والذي يمتلك مهارات حديثة تثبت موقعه كثروة استراتيجية وطنية وقومية. والتخطيط الاستراتيجي في هذا المجال، يحتاج الى جرأة وقوة سياسية وعلمية تتخطى الاستعانة ببعض شركات الاستشارات العالمية لتملي علينا ما هو موجود اليوم وكيف يمكن الحفاظ عليه وتطويره بشكل مجهري. التخطيط الاستراتيجي بحاجة لتخطي معوقات الحاضر، ورسم صورة للمستقبل أقرب الى الحلم، تستطيع أن تستنفر وتعبئ الطاقات والامكانيات والامكانات، وتزج بكل القوى الحية في المجتمع في عملية نهوض تصاعدي مستدام. وهذا لا يمكن تحقيقه في ظل التخلف والفساد الحاصل، وعمليات توزيع الفشل ونشر الإحباط وتعميم اليأس.
والأكيد أن هذا الانتقال من مكان الى آخر، على المستوى الوطني، يستلزم تغييرات جذرية ليس فقط في عقلية الطبقة السياسية الطائفية الاقطاعية المتحكمة في البلاد والمستفيدة من كوارثها، بل تغييرات جذرية في الطبقة السياسية نفسها، حتى لا نبقى اسرى خيارين مغلقين: إما وزراء الأحزاب الطائفية مع كل ما يحملونه من ارث المحاصصات وتوظيف الأزلام، أو وزراء الصدفة الطائفية المصنفين بأنهم مستقلين وتكنوقراط، والذين يحملون أحقاداً دفينة وعقد تاريخية وكيديات صغيرة نتيجة اقصائهم لعقود عن دوائر القرار، أو تدجينهم عند أمراء الطوائف.