منوعات

الأعيان ليسوا فوق القانون

بقلم الياس نبيل حسون دكتور في القانون الجزائي الدولي

تُشكل الفجوة القضائية في القضايا الجنائية الضخمة، على غرار قضية انفجار بيروت والتي اطلق عليها تسمية “بيروتشيما”، محور تساؤل لدى رجال القانون والامن والمجتمع، ففي ذلك اليوم الصيفي الحار الموافق في الرابع من آب 2020 وعند الساعة 18.08 بالتوقيت المحلي، هز انفجار هائل العاصمة اللبنانية بيروت مخلفاً حوالي 218 ضحية و7000 جريحاً وتدمير أحياء بكاملها مع تشريد حوالي 300000 شخص من منارلهم.
وارتبط الانفجار بكمية كبيرة من المواد المتفجرة المصادرة والتي يحتمل أن تكون غير مؤمنة، مخزنة في مستودع في ميناء المدينة، بالقرب من المناطق المأهولة بالسكان، والتي انفجرت وألحقت أضرارا وسحقت المناطق المحيطة بها وشعرت بها على بعد 240 كيلومترا.

 

بعد وقت قصير من الانفجار، تدخل قادة العالم والمنظمات الدولية لتقديم المساعدة. وكما هو الحال في أي قضية جنائية مماثلة، فإن الفحص الفوري لمسرح الجريمة والمناطق المحيطة به له أهمية قصوى بالنسبة لنتائج التحقيق الذي يجريه المسؤول المحلي. كان هذا هو الحال بعد انفجار بيروت، حيث تدخل قادة العالم والمنظمات الدولية بسرعة لتقديم المساعدة، وجمع الأدلة، بينما وصفوا الوضع ومسرح الجريمة بالفوضى.
بعد مرور أكثر من 1000 يوم على المسار القضائي اللبناني والذي اتسم بسوء الإدارة والفساد والإهمال والتقصير والمخالفات في أداء الواجب، انتهى الأمر بأن الأجهزة اللبنانية مجتمعةً تتحمل المسؤولية الأساسية عن انعدام الأمن والتحقيق والحماية والقانون والنظام في لبنان. لقد أظهر الجهاز القضائي اللبناني إهمالاً خطيراً ومنهجياً في القيام بالواجبات التي يؤديها عادةً جهاز وطني محترف. وبقيامهم بذلك، فشلوا فشلاٍ ذريعاً في توفير مستوى مقبول من السلوك، ومن ثم أسهموا في نشر ثقافة التخويف والإفلات من العقاب.

تدويل العدالة المحلية:

أضحى الإجرام العالمي أحد الجوانب الأكثر أهمية للبعد الواسع للجريمة، كما ساهمت “العولمة” في عملية التفاعل والتكامل بين البلدان والشعوب بحيث اصبحت تشكل تحديات جديدة لممارسي العدالة الجنائية والباحثين فيها.
من هنا لا بدّ من الإضاءة على عنصرين رئيسيين يحددان مبادئ المحاكمات الدولية وهما، عدم الإعتداد بالحصانة وعدم سقوط الجرائم بالتقادم.

لا حصانة للجرائم بموجب القانون الدولي:

بالعودة إلى الظروف المحيطة بانفجار المرفأ، برزت دولياً مسألة تكييف الحدث كجريمة ضد الإنسانية تندرج في خانة الجرائم الدولية المنصوص عنها في المادة الخامسة من نظام روما الأساسي، ما يستدعي الغاء المطالبات بالحصانات الرسمية التي يتمتع بها مسؤولو الدولة من كافة المراتب، استناداً الى ما ورد صراحةً في نص المادة 27 من هذا النظام بشـأن المسؤولية الجنائية للحكام و حصاناتهم، والتي أكدت على المبادئ العامة المرسخة منذ محاكمات نورمبرغ، على قيام المسؤولية الجنائية للحكام بالمفهوم الواسع لهم سواء كانوا رؤساء دول أو حكومات أو وزراء أو ذوي مناصب عليا مُنحت لهم حصانات وفقاً لقوانين دولهم الوطنية أو وفقاً للقانون الدولي، فتميزهم عن الأشخاص العاديين، و تضعهم في منأى عن المتابعات الجزائية ما يعفيهم من تحمل المسؤولية.
“يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية. وبوجه خاص، فإن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيساً لدولة أو حكومة أو عضواً في حكومة أو برلمان أو ممثالاً منتخباً أو موظفاً حكومياً، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسؤولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي، كما أنها لا تشكل، في حد ذاتها، سبباً لتخفيف العقوبة. لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي، دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص “- نظام روما الأساسي المادة 27.
لقد أظهرت الأحداث المأساوية في القرن 20 أن الحصانة التي يتمتع بها قادة العالم دفعتهم إلى ارتكاب أبشع الجرائم وذلك كونهم كانوا على يقين مسبق أنه بإمكانهم التصرف بحرية مطلقة مبنية على مبدأ الإفلات من العقاب، فكان نظام روما الأساسي بالمرصاد واعتبر أهم تطور في التاريخ لكبح جماح إساءة استخدام السلطة هذه دون رادع.
عدم تطبيق قانون التقادم.
إن أهمية الملاحقة القضائية الدولية لمرتكبي هذه الجرائم الخطيرة تتضاءل قليلاً على مر السنين. وفيما يتعلق بهذه النقطة، من المهم التذكير بالمادة 1 من اتفاقية الأمم المتحدة بشأن عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، حيث نصت إتفاقية نيويورك الموقعة بتاريخ 26 تشرين الثاني/نوفمبر 1968، على أن هذه الجرائم الدولية لا تسقط بالتقادم، أو الجرائم الخطيرة التي تبرر استبعادها من التقادم.
وعلاوة على ذلك، تنص المادة 29 من نظام روما الأساسي على عدم انطباق التقادم على الجرائم الدولية التي هي موضوع المحكمة الجنائية الدولية.
وبالتالي،
واستناداً إلى نتائج التحقيقات اللبنانية حتى الآن، وبناءً على الأدلة المادية والوثائقية التي تم جمعها والخيوط التي تم البحث عنها حتى الآن، هناك أدلة متقاربة تشير إلى تورط عدد من المسؤولين اللبنانيين في هذا العمل التفجيري إن من ناحية الإهمال الوظيفي أو العلم المسبق عن المخاطر والتستر. علاوةً على الحقائق المعروفة جيداً كون السلطة اللبنانية كان لها وجود واسع النطاق في المرفأ، كما برزت مسألة إلغاء رئيس الوزراء اللبناني السابق زيارته إلى المرفأ قبل أيام قليلة من الانفجار.

ورأت أجهزة التحقيق اللبنانية التي تعمل جنباً إلى جنب أنه سيكون من الصعب تصور سيناريو يمكن من خلاله تنفيذ مثل هذه المؤامرة المعقدة للانفجار دون علم أركان السلطة. وتنظر هذه الدراسة للاتجاه نحو اعتبار تشعّب وضخامة هذا العمل الجرمي، لا يمكن ليتحقق، إلا من خلال ضلوع رجال مؤسسات الدولة ما يشكل نواة ما يعرف بالمؤسسة الجرمية والتي نتج عنها عمل جرمي اتخذ طابع الجريمة الدولية.

ولذلك، ينبغي أن تضطلع السلطات القضائية والأمنية الدولية المختصة بالتحقيق المستمر، حتى تتمكن في المضي قدماً وفي بعض الأحيان أخذ زمام المبادرة بطريقة فعالة ومهنية. وفي الوقت نفسه، ينبغي على السلطات اللبنانية النظر في جميع تداعيات القضية حتى تتمكن من المضي قدماً. وبالتالي، من الضروري أن يبذل المجتمع الدولي جهداً متواصلاً لإنشاء منبر للمساعدة والتعاون ومؤازرة السلطات اللبنانية وبالتنسيق معها في مجال الأمن والعدالة. وهذا من شأنه أن يعزز إلى حد كبير ثقة الشعب اللبناني في أنظمته الأمنية والقانونية، مع بناء الثقة بالنفس في قدراته.
ونتيجة للتحقيق الدولي، ينبغي اعتقال عدد من الأشخاص واتهامهم بالتآمر لارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”. ومع ذلك، فإننا نرى بالطبع أن جميع الناس، بمن فيهم المتهمون بارتكاب جرائم خطيرة، ينبغي اعتبارهم أبرياء حتى تثبت إدانتهم بعد محاكمة عادلة.
وأصبح من الواضح أن عملية التحقيق اللبنانية تعاني من عيوب خطيرة وليس لديها القدرة ولا الالتزام للتوصل إلى نتيجة مرضية وذات مصداقية. وللوقوف على الحقيقة، سيكون من الضروري إسناد التحقيق والعملية القانونية إلى لجنة دولية مستقلة، تضم مختلف مجالات الخبرة التي تشارك عادة في إجراء تحقيقات كبيرة مماثلة في النظم الوطنية. وعلاوة على ذلك، من المشكوك فيه إلى حد كبير أن تتمكن هذه اللجنة الدولية من الاضطلاع بمهامها على نحو مرض وأن تتلقى التعاون النشط اللازم من السلطات المحلية بينما تظل القيادة الحالية لأجهزة الأمن اللبنانية في السلطة.
.

وأخيرا، سيكون الدعم القانوني الإقليمي والدولي ضروريًا لحماية وحدة لبنان الوطنية وحماية نظامه السياسي الهش من الضغوط غير المبررة. ومن شأن تحسين آفاق السلام والأمن في المنطقة أن يوفر أساسا أكثر صلابة لاستعادة الأوضاع الطبيعية في لبنان. ومن الواضح أنه “وبما أن أحدا لن يوقع على اتفاق زواله”، ينبغي للمجتمع الدولي أن يتخذ إجراء سريعا وأن يعالج القضية في أروقة الأمم المتحدة مستخدما سلطة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لتوضيح الحقيقة.

“ضمان العدالة يبدأ بإثبات أن المشاهير ليسوا فوق القانون”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى