زيارة جنبلاط للرهبانية المارونية تجديد لروح المصالحة والشراكة في الجبل
بيروت-“القدس العربي” من سعد الياس:
لم تكن زيارة الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وعقيلته نورا إلى الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية الاباتي هادي محفوظ في جامعة الروح القدس في الكسليك مجرد لقاء بروتوكولي، بل لحظة رمزية تعيد إلى الأذهان مشهدًا من مشاهد الذاكرة اللبنانية العميقة، حيث يتقاطع التاريخ بالهوية، والجبل بالرسالة. فالرهبانية المارونية ليست مجرد صرح ديني، بل ذاكرة مؤسسية للوجود الماروني في لبنان، مثلما يمثّل الزعيم الدرزي موقعًا مركزيًا في وجدان الجبل السياسي والإنساني.
فقد وصل الزعيم الدرزي وعقيلته إلى الكسليك وهو يقود سيارته من دون مرافقين وكان في استقبالهما الاباتي محفوظ ورئيس جامعة الروح القدس الأب البروفسور جوزف مكرزل ورئيس دير مار جرجس في الناعمة الاب سمير غاوي الذي كان ايضاً رئيساً لدير مار مارون في مجدل المعوش والذي نسّق موضوع الشراكة الاستراتيجية الدرزية المارونية في الجبل مع مدير عام شركة B5 للدراسات والاستشارات وإدارة الاستثمارات نظام حاطوم.
وجاءت زيارة جنبلاط بعد أيام على الاحتفال الذي أقيم في مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز في فردان بمشاركة شيخ العقل الدكتور سامي ابي المنى كخطوة مبارِكة لتوقيع اتفاقية الشراكة في دار الطائفة والتي من شأنها أن تكرّس المصالحة التاريخية التي أجراها البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير في المختارة مع وليد جنبلاط عام 2001 في ظل نظام الوصاية السورية وتؤمن لأهالي الجبل فرص العمل والعيش الكريم للعائلات عبر استثمار ما يصلح من الاملاك الوقفية وتفسح بالمجال امام رجال الاعمال والطامحين للاستثمار في مشاريع ذات عوائد ربحية. وهكذا حملت زيارة جنبلاط في طيّاتها رسالة مزدوجة: الحفاظ على روح الشراكة الروحية والاجتماعية بين الموارنة والدروز، وتعزيز التعاون في زمن التحديات الاقتصادية. فالجبل يعيش اليوم على نبض الشراكة اليومية في التعليم، والزراعة، والسياحة البيئية، والمبادرات الأهلية. والأديرة المارونية والمدارس والبلديات تتقاطع في نشاطها مع الجمعيات الدرزية والمؤسسات التقدمية، لتشكل شبكة حياة اقتصادية وثقافية تتجاوز الطائفية الضيقة.
وكانت زيارة جنبلاط مناسبة للتجول في أرجاء جامعة الكسليك وخصوصًا في المكتبة التي تحتوي على إرثٍ كبيرٍ من تاريخ لبنان، والاطلاع على كيفية معالجة المخطوطات والخرائط والكتب القديمة، اضافة إلى زيارة متحف الجامعة الذي يحتوي على كمية كبيرة من اللوحات الفنية لأبرز الرسامين اللبنانيين، من أجيالٍ ومدارس مختلفة، قبل أن تنتهي الزيارة بغداء على شرف الزائرَين.
غير أن ما لم يُعلَن عن الزيارة هو أنها جددت روح مصالحة الجبل وأكدت عمق الشراكة المارونية الدرزية في بلدٍ يزداد انقساماً، ما يعيد فتح نافذة على تاريخ الجبل الذي حمل عبر قرون فكرة لبنان بعيداً عن الاهتزازات الوطنية الحاصلة حالياً.
ومن عِبَر التاريخ أن الجبل كلما كان بخير كان لبنان بخير، فهو المختبر للعيش المشترك على سفوح الشوف وعاليه حيث تتداخل القرى والعائلات والمصالح المشتركة وحيث نشأت هوية لبنانية من رحم التعاون بين طائفتين جمعت بينهما الجغرافيا وفرّقتهما أحياناً السياسة والظروف، لكن هاتين الطائفتين بلورتا معاً الكيان اللبناني المتنوع، وعادتا سنة 2001 لتعلنان معاً من المختارة أن الجبل يريد أن ينهض من ذاكرته المؤلمة، فكانت مصالحة الجبل حدثاً وطنياً غير عابر، ولحظة وعي جماعي بأن لا خلاص لفئة دون أخرى، وقد أكد عليها ايضاً البطريرك الحالي مار بشارة بطرس الراعي. ولم تكن تلك المصالحة اتفاقًا سياسيًا ثنائياً، بل كانت فعل مصالحة بين الذاكرة والوجدان، بين الأرض وأبنائها. وقد ساهمت في عودة المسيحيين إلى قراهم في الشوف وعاليه، وفي ترسيخ مفهوم الشراكة الوطنية.
وقد عبّر الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية التي تمتلك أدياراً ومساحات شاسعة من الاراضي في الجبل عن تلك الحقبة التاريخية في خلال اللقاء مع جنبلاط، مستعيداً التاريخ الجليل الذي يعد العدّة لغد مشرق. وقال “بين الدروز والموارنة علاقة متينة واستراتيجية، وضعت أسسًا ثابتةً ومتينةً لقيام لبنان الحديث. ورهبانيتنا أدخلت في وجدانها تلك العلاقة وتابعتها، خصوصًا من خلال أديارها في الجبل، ومن خلال شركائها، ومن خلال علاقتها مع النبلاء الدروز وزعمائهم”، مضيفاً “من التاريخ نريد أن نقطف ما هو جميل وبهيّ لنستقي منه جمالاً وبهاءً لحاضرنا ولمستقبلنا. ومن الصفحات السوداء في التاريخ، نستقي الأمثولات لجعل العيش أجمل”.
وكان تأكيد على أن توقيع الاتفاقية هو علامة لهمّ إنمائي مشترك أملاً بغد مشرق فيه عيش كريم يسوده السلام ومحبة الآخر.

