كتب داني حداد في موقع mtv:
ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن جان عبيد، ولكنّها الأكثر شقاءً. ما اعتدت، عند الكتابة عنه، أن أبحث عن مفردات الرثاء. تماماً كما اعتدت ألا أكون في حضرته إلا مصغياً، مبتسماً، مستمتعاً بما يقول وكيف يقول.
خسر لبنان اليوم “كبيراً”، ولو أنّ هذه الكلمة باتت مستهلكة تُقال عن غير المستحقّين. و”كبر” جان عبيد ليس في موقع تولاه أو رُشّح له واستحقّه أكثر بكثير من بعض من وصلوا، بل في الشخص.
هو المثقّف الذي يجمع من حوله كبار الكتّاب، ويتفوّق عليهم في ما يعرف وما يحفظ. وهو المسيحي الذي يعرف عن دين المسلمين أكثر ممّا يعرفون. وهو المؤمن بالعناية الإلهيّة، حتى في الرئاسة التي وصلت مراراً الى عتبة البيت ولم تدخل. وهو الأنيق في المظهر والملبس والنطق. يقلّ في الكلام ويفيد. ولا يعتلي منبراً إلا ليقول ما لا يقدر كثيرون على قوله، بلاغةً في الأسلوب ورفعةً في المضمون.
الله يا “عمّو جان” كم سنفتقدك. وكم خفت من هذه الخسارة منذ طالت غيبوبتك، فما استيقظت يوماً إلا متفقّداً هاتفي خشية أن يكون وصل الخبر الأليم.
وصل الخبر اليوم. ستُنقل من المستشفى الى المدفن. لن تمرّ الى بلونة من أجل غداءٍ أخيرٍ معك. كيف تحرمنا منك ومن تلك الجَمعات مع العائلة الحبيبة. كيف ستضحي صورةً على جدار، الى جانب صورتَي الوالد والوالدة، بعد أن كنت مالئ البيت وشاغل العائلة تجمعها حولك كلّ أحد، يوم الربّ ويوم العائلة.
لا أعثر، يا “عمّو جان” على كلمات الرثاء. هل أستعين بكلماتٍ رثيت بها فؤاد شهاب الذي التقيته صباح يوم رحيلك، وأخبرك أنّ “لبنان مقبل على عواصف وأعاصير سعيتُ جاهداً أن أصونه منها في أيامي”.
لعلّ عواصف اليوم وأعاصيره أكثر شدّة، وما من يصون، وما من يحاول. وكم سأفتقد تعليقاتك على ما يجري، واتصالاتك للتعليق على مقال، ولإنارتي بفكرة، أو لانتقاد بعض أهل السياسة، من دون تجريح، كما عادتك في كلّ ما تقول. حتى الشتائم تقول في الوجه، وبتحبّب يُضحك السامع.
كتبتَ يوماً: “لم أكن حزبيّاً في يومٍ من الأيّام”، ولكنّك كنتَ صديق الأضداد، وبارعاً في تدوير الزوايا الحادّة وفي تهدئة النفوس المتأجّجة عند الصراعات. تؤدّي أدوارك بخفر. تقول كلمة الحقّ في وجوه الرؤساء والحكّام، وقد احترمك من عرفك، في لبنان وخارجه، حتى قال عنك وزير الخارجيّة السعودي الراحل سعود الفيصل: “وزير خارجيّة كلّ العرب”.
سنفتقدك كبيراً في زمن كثر فيه الصغار وخلافاتهم على الصغائر. في زمنٍ تصلح فيه مقولة “ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها، كالهرّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد”. وهذه العبارة تعلّمتها منك، تماماً كما تعلّمت منك الكثير، وقد قالت لي أمّي يوماً، وقد أصبحتَ في جوارها، عاشر الكبار تكبر.
وداعاً يا أنبل السياسيّين. العزاء للسيّدة لبنى وجميع أفراد العائلة. أحبّكم، وكم يؤلمني، أيضاً، ألا أعانقكم جميعاً في يوم وداع “كبيرنا”.