يضع بنيامين نتنياهو حرب غزة على نار خفيفة. فهو ليس مستعجلاً، لأنه يريد إنضاج خطط بالغة الأهمية على هذه النار قبل إطفائها.
لا يختلف اثنان في تحليل التوقيت السياسي الذي فيه اندلعت حرب غزة، يوم 7 تشرين الأول 2023. فالشرق الأوسط كان حينذاك أشبه بخلية ناشطة هدفها ضَم المملكة العربية السعودية إلى قطار الاتفاقات الإبراهيمية والتطبيع مع إسرائيل.
منذ اللحظة الأولى، كان موقف القيادة السعودية الشابّة واضحاً في هذه المسألة: لا يمكن للسعودية، وهي المرجعية الإسلامية الرمز، أن توافق على التطبيع ما لم يعترف الإسرائيليون بدولة فلسطينية مستقلة. فهذه تكون مقابل تلك.
وفي مفهوم السعوديين أن الأساس الذي يمكن الاستناد إليه للتسوية موجود منذ أكثر من عقدين، وهو المبادرة التي خرجت بها قمة بيروت العربية في العام 2002، القائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام. كما أنّ للرياض مطالب أمنية يجدر تلبيتها قبل أن تنخرط في التطبيع. فالمملكة تريد تدعيم إمكاناتها الدفاعية بشكل وافٍ، وتطمح إلى حيازة قدرات نووية للاستخدامات السلمية.
كان الأميركيون والأوروبيون يبذلون ما في وسعهم لتسهيل التفاهم على معادلة تُرضي السعوديين، لكي يوافقوا على التطبيع. وبدا الإسرائيليون مستعدين لتقديم التسهيلات، في الشكل طبعاً. وقيل حينذاك إن ورشة بحثية فُتحت في الجامعة العربية بهدف تطوير المبادرة العربية القاضية بالاعتراف بدولة فلسطينية، بحيث يصبح الإسرائيليون مستعدين للموافقة عليها.
ولكن، في اللحظة الحساسة، جاءت ضربة «حماس»، «طوفان الأقصى»، لتجمّد المسار نحو التطبيع. ورأى كثيرون أن طهران وحلفاءها ربما أرادوا من الضربة تحقيق هذا الهدف حصراً، لكن نتنياهو فاجأهم باستثمار ضربة «حماس» ليفتح حرباً لن يوقفها قبل تحقيق أهداف إسرائيلية استراتيجية بعيدة المدى.
اليوم، مع اقتراب الحرب من شهرها الثامن، وفيما الجميع يترقبون التحولات التي ستطرأ على المعادلة الإقليمية في الأشهر القليلة المقبلة، خصوصاً بتأثير من الانتخابات الرئاسية الأميركية، يجري تعويم فكرة التطبيع، بإطلاق الاتصالات حولها من حيث توقفت في تشرين. وتستعجل إدارة بايدن تحقيق نتائج ملموسة في هذا الشأن، قبل انتهاء الولاية. وثمة من يعتقد أن هناك ضوءاً أخضر إسرائيلياً ضمنياً للورشة المستجدة، لكنه يصبح ضوءاً أحمر إذا تبين لنتنياهو أن مشروع الدولة الفلسطينية سيتجاوز العنوان المرفوع شكلاً، وأنه سيُلزم إسرائيل بتنازلات «كيانية» فعلاً، أي بتحديد بقعة جغرافية معينة وعاصمة للدولة الفلسطينية الموعودة.
اليوم، يجري التمهيد لاتفاق التطبيع المحتمل بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل بمحاولة الإيحاء بتلبية الشرطين الأساسيين اللذين طرحتهما الرياض سابقاً. ويتم ذلك على مسارين:
1 – إبرام اتفاق دفاعي بين المملكة وواشنطن يتوقّع وزير خارجية واشنطن أنتوني بلينكن حصوله «خلال أسابيع». ويتضمن الاتفاق تزويد السعودية أسلحة وذخائر حديثة، بينها طائرات أف 35، ومساعدتها على بناء قدراتها النووية.
2 – تشجيع دول العالم على خلق حال من الاعتراف الدولي الشامل بدولة فلسطينية. فالفلسطينيون يحظون اليوم بمقعد عضو مراقب في الأمم المتحدة، لكن لهم مقاعد كاملة المواصفات في منظمات دولية عدة كالمحكمة الجنائية الدولية والأونيسكو. ومنذ أسابيع، تتلاحق الاعترافات بهذه الدولة من جانب دول أوروبية كانت متريّثة كإسبانيا والنروج وإيرلندا. ويمكن القول إنّ أكثرية دول العالم باتت تتبنّى هذا الاعتراف، فيما لا تعارض الولايات المتحدة وغالبية دول الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية وأستراليا واليابان هذه الخطوة، لكنها تشترط حصولها بعد مفاوضات بين الأطراف المعنية. وهذا الأمر سيكون حتمياً بعد حرب غزة.
في الظاهر، قد تبدو الاعترافات بالدولة مكسباً للقضية الفلسطينية. لكن البعض يخشى أن يكون هذا الاعتراف، من دون تحديد البقعة الجغرافية التي ستنشأ عليها الدولة، مجرد عنوان لا قيمة له واقعياً، ويتبخّر لاحقاً. ولذلك، قد توافق عليه إسرائيل اليوم، لكنها سترفض إرفاق هذا الاعتراف بأي التزام حقيقي بالتنازل عن أراضٍ فلسطينية.
ويخشى هؤلاء أن يقوم الإسرائيليون وحلفاؤهم بنسف فكرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية لاحقاً، بعد تحقيق الهدف المطلوب، أي شق الطريق أمام قطار التطبيع العربي.
في أي حال، كل هذا الحراك السياسي لا يمكن أن يثمر، فيما دَوي المدافع في غزة يطغى على كل شيء. وسيكون على الجميع انتظار انتهاء الحرب هناك قبل الدخول في التسويات السياسية. وهذا الانتظار سيطول أشهراً بالتأكيد، وربما سنوات.