تحليل السياسات

لبنان أمام خطر كبير: هل تنتقل أحداث سوريا إلى شماله؟

مخاوف من اندلاع اقتتال في مناطق لبنانية خصوصاً مع فرار مجموعات موالية للنظام إلى بلدات حدودية طوني بولس "independent عربية"

بدأت الأحداث المتسارعة في الساحل السوري تلقي بظلالها على الداخل اللبناني، إذ شهدت القرى الحدودية في الشمال ولا سيما بلدات سهل عكار موجة نزوح جديدة، ضمت آلاف السوريين واللبنانيين المقيمين في سوريا، إثر تصاعد الاشتباكات في ريف اللاذقية تزامناً أيضاً مع معلومات كشفتها وسائل إعلام عن ضبط محاولة تهريب نحو 4 ملايين دولار بطريقة غير شرعية إلى لبنان، وقبلها سجل إحباط عدة عمليات لتهريب أسلحة، مما أثار مخاوف من إمكانية أن تقوم أطراف سورية ولبنانية بتحويل مناطق في الشمال اللبناني إلى “مربعات” لفلول النظام السوري السابق.

هذه الحوادث كشفت إلى العلن ما كان قائماً خلف الكواليس طوال الفترة السابقة، بتحول مناطق لبنانية حدودية إلى ملاذ خلفي لفلول النظام السوري السابق، بشراكة وثيقة مع عصابات التهريب المحميين من “حزب الله​”، وفق الباحث في الشؤون الاستراتيجية العميد المتقاعد يعرب صخر الذي عدَّ أن ما يجري على الحدود يمثل إصرار سلطات دمشق الجديدة على “مطاردة ذيول النظام وفلول الحزب، الذين يتلطون باسم العشائر ويحاولون إعادة تنظيم خلاياهم وفتح ممرات تهريب السلاح والمخدرات انطلاقاً من الأراضي اللبنانية​، على حد تعبيره.

ويبدو أن لبنان بات على أكثر من صفيح صراع إقليمي يطوقه، إذ تتطاير شظاياه على جميع الأراضي اللبنانية من الجنوب حيث المواجهة مع إسرائيل لا تزال مفتوحة على مصراعيها، إلى الجبل حيث المجتمع الدرزي مترقب لمجريات الأحداث في السويداء جنوب سوريا، وصولاً إلى الشمال الذي بات على تماس مع أحداث الساحل السوري والبقاع، الذي شهد جولات من الاشتباكات على جانبي الحدود.

وبذلك يرى كثر أن لبنان تحول بالفعل إلى “ساحات إسناد” لصراعات الآخرين، يدفع فاتورتها الباهظة من أمنه واستقراره. وهذا الواقع الخطر بدأ يثير القلق ويمهد لفتح نقاش لبناني صريح حول سياسة البلاد الخارجية والدفاعية، ومعه تُطرح التساؤلات:

هل يبقى لبنان ساحة يتقاتل عليها الآخرون، أم يستطيع النأي بنفسه قدر الإمكان؟ وهل يتمسك بقاعدة “قوة لبنان في ضعفه” عبر الحياد، أم ينخرط ضمن توازنات القوة الإقليمية طلباً للحماية ولو كان ثمن ذلك ارتفاع منسوب الخطر الداخلي؟

نزوح متجدد

يشهد لبنان راهناً “موجات كبيرة جداً” من النزوح تجتاح الحدود الشمالية في ظل غياب تام للدولة عن المعابر غير الشرعية، إذ حذر العميد المتقاعد جورج نادر (أحد أبناء منطقة عكار الشمالية) من خطر إضافة مليون نازح سوري جديد إلى نحو مليوني سوري موجودين أصلاً في لبنان منذ أعوام الحرب السورية الأولى​، مستنكراً تحويل لبنان إلى “بلد لجوء” كلما اهتز الاستقرار في سوريا​.

وتساءل نادر بقلق “هل نستطيع استيعاب مليون سوري جديد ينضمون إلى مليوني سوري نزحوا منذ عام 2011، بحيث يفوق عددهم عدد اللبنانيين أنفسهم؟​ مشدداً على أن تداعيات هكذا موجة نزوح ستكون كارثية اقتصادياً وديموغرافياً واجتماعياً، في ظل عجز البنية التحتية اللبنانية المتهالكة عن تحمل أعباء إضافية​.

وفي المقابل، ينبه بعض المراقبين إلى البعد الإنساني للأزمة، إذ يجد لبنان نفسه مجدداً أمام واجب أخلاقي بإغاثة الفارين من العنف، وسط غياب أي دور فعال لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في إحصاء الداخلين الجدد أو مدِّهم بالمساعدات​.

هذا التباين في المقاربات بين ضرورات الأمن الوطني والاعتبارات الإنسانية يضع صانعي القرار في موقف حرج، وبخاصة أن السلطات اللبنانية كانت اتخذت قراراً سياسياً قبل سقوط النظام السوري بعدم استقبال نازحين جدد، وهو قرار يتحداه واقع الحال اليوم.

أرقام النازحين خلال الأيام الماضية

بحسب مصادر المجلس الإسلامي العلوي في لبنان، فإن الأيام الأخيرة شهدت نزوح أكثر من 3000 شخص من الطائفة العلوية من الساحل السوري باتجاه القرى العلوية في سهل عكار وجبل محسن في طرابلس شمالاً. ويرجح أن يكون العدد الحقيقي للنازحين أكبر من الرقم المعلن، إذ تشير مصادر محلية إلى عبور نحو 10 آلاف شخص يومياً عبر المعابر غير الشرعية، كونها المنفذ الوحيد المتبقي أمام السوريين الفارين من النزاع، مما قد يرفع أعداد النازحين إلى مئات الآلاف خلال الأشهر المقبلة.

وعلى رغم استمرار تدفق اللاجئين فإن السلطات اللبنانية لم تحدد بعد مراكز إيواء رسمية لهم، ولم توفر لهم أية مساعدات إنسانية، إذ تقتصر المساعدات على جهود تطوعية من جمعيات أهلية ومبادرات فردية من شخصيات مستقلة، ومنظمات إغاثية دولية. وحذرت فعاليات طرابلسية من أن النزوح العلوي المستمر نحو المناطق ذات الغالبية السنية قد يؤدي إلى توترات في شمال لبنان، إذ إن تداعيات الأحداث السورية بدأت تحدث تغييرات ديموغرافية داخل بعض المناطق، ما قد يزيد من مستوى الاحتقان الداخلي.

استدراج القتال

في موازاة ذلك، يبرز هاجس استدراج الاقتتال السوري إلى الداخل اللبناني، وبخاصة وسط ما يحكى عن تورط أطراف لبنانية في دعم الفصائل المتصارعة داخل سوريا. وقبل أسابيع كانت وقعت اشتباكات مسلحة في مناطق البقاع الشمالي بين الجيش السوري ومجموعات لبنانية مسلحة تدعم فلول النظام السابق. وتشير التقارير إلى أن هذه الاشتباكات مرتبطة مباشرة بمحاولات “حزب الله” الدفاع عن مصالحه في المنطقة، في حين أصدر “حزب الله” بياناً رسمياً قبل ساعات ينفي فيه أي تورط مباشر له في أحداث الساحل السوري راهناً، وفي البيان جاء “تدأب بعض الجهات على الزج باسم الحزب فيما يجري من أحداث في سوريا واتهامه بأنه طرف في ‏الصراع القائم هناك.‏ وينفي الحزب بصورة واضحة وقاطعة هذه الادعاءات التي لا أساس لها من الصحة، ويدعو وسائل الإعلام ‏إلى توخي الدقة في نقل الأخبار وعدم الانجرار وراء حملات التضليل التي تخدم أهدافاً سياسية وأجندات ‏خارجية مشبوهة”.

هل يتحول لبنان ساحة لتصفية الحسابات؟

أحد أبرز العوامل التي تعزز احتمالية استدراج القتال إلى لبنان أن الحدود بين البلدين كثيراً ما كانت مسرحاً لتصفية الحسابات. ومع تصاعد المواجهات الطائفية في سوريا، يخشى أن تتحول بعض المناطق اللبنانية، وبخاصة في الشمال والبقاع، إلى امتداد للحرب السورية.

وعند الحديث عن استدراج لبنان إلى الصراعات الإقليمية، لا يمكن تجاهل تجربة “حزب الله” في حرب “إسناد غزة” عبر عمليات محدودة سرعان ما تحولت بعدها إلى حرب شاملة بين الحزب وإسرائيل، مما ترك أضراراً كبيرة في لبنان تتجاوز قيمتها الـ10 مليارات دولار.

واليوم يخشى كثر أن يتكرر هذا السيناريو، ولكن هذه المرة من البوابة السورية. فمن خلال دعم “حزب الله” للعلويين في الساحل السوري ودعم بعض المجموعات السنية اللبنانية للنظام الجديد في دمشق، قد يجد لبنان نفسه مجدداً في قلب معركة إقليمية، إذ إن تورط لبنان في النزاع السوري قد يكون أخطر من تورطه في نزاع غزة، لأن الحدود اللبنانية السورية ليست كحدود لبنان مع إسرائيل، بل هي مساحات مفتوحة يمكن استخدامها كمنصات دائمة للمواجهات العسكرية.

وفي موازاة التصعيد العسكري، يبرز ملف دروز سوريا كعامل إضافي يهدد بتفجير الأوضاع في لبنان. فقد أعلنت مجموعات درزية سورية نيتها إقامة حكم ذاتي في السويداء وجبل الدروز، هذا التطور دفع الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط إلى إعلان رفضه المطلق لهذه الفكرة، معتبراً أنها “فخ إسرائيلي” يهدف إلى تقسيم سوريا وضرب استقرار المنطقة.

الارتدادات إلى لبنان

وفي السياق، لفت الصحافي والباحث السياسي نضال حمادة المقرب من “حزب الله”، إلى أن ارتدادات الأحداث في سوريا قد تؤثر مباشرة على لبنان، وبخاصة في ظل التداخل الإقليمي والدولي في الصراع السوري، موضحاً أن التطورات الجارية قد تشكل تهديداً مباشراً على الأمن اللبناني، وبخاصة إذا استمر تدهور الوضع في سوريا. وأشار إلى أن الرئيس السوري أحمد الشرع، في حال ترسيخ سيطرته، قد يحاول التمدد نحو لبنان، إذ تمثل البيئة “السلفية” في بعض المناطق أرضية خصبة لذلك.

ويعد حمادة أن إسرائيل تعمل على استغلال البيئة “الشيعية” في لبنان فيما يتحدث الإعلام الإسرائيلي عن خطة طويلة الأمد لمعاقبة “حزب الله” عبر استنزافه أمنياً واقتصادياً، مشدداً على أن ما يجري في سوريا ليس مجرد تحولات داخلية بل هو جزء من إعادة ترتيب النفوذ الإقليمي. وأكد أن لبنان لن يكون بمنأى عن هذه التداعيات، محذراً من أن أي انفجار داخلي في سوريا قد يعيد خلط الأوراق في المنطقة بأكملها، بما في ذلك لبنان.

دور “حزب الله”

الصحافي علي حمادة يرى بدوره أن الأحداث الجارية في الساحل السوري، ولا سيما في محافظتي اللاذقية وطرطوس تأتي في سياق محاولة لإعادة خلط الأوراق، بعد التطورات الجيوسياسية الكبيرة التي شهدتها الساحة السورية وعلى رأسها سقوط نظام بشار الأسد، موصفاً ما يحدث بأنه أشبه بـ”انقلاب مضاد” أو “ثورة مضادة” تسعى إلى قلب المعادلة الجديدة التي استقرت منذ ديسمبر (كانون الأول) 2024، مؤكداً أن هذا التطور الجيوسياسي لم يكن ليحدث من دون أن تكون له ترددات وارتدادات كبيرة، سواء اليوم أو في المستقبل القريب.

ويشير حمادة إلى أن المعركة الدائرة حالياً في الساحل السوري ليست مجرد صراع بين العلويين أو مجموعات موالية ومعارضة، بل هي معركة نفوذ تقف خلفها إيران وبعض أركان النظام السابق، الذين يسعون إلى إعادة رسم التوازنات وقلب المعادلة السياسية والعسكرية الجديدة في المنطقة، موضحاً أن التضاريس الجبلية الصعبة في هذه المنطقة تمنح الفصائل المتحركة فيها قدرة على الاحتماء والقتال لفترات طويلة، مما يجعل الصراع أكثر تعقيداً وصعوبة بالنسبة للحكم الجديد في دمشق.

ويكشف حمادة عن معلومات مؤكدة حول تورط “حزب الله” في تأمين ملاذات آمنة لعناصر النظام السابق، إذ قام الحزب بتوفير مخابئ في المناطق الجبلية المحيطة بالساحل السوري، ووفر حماية لعمليات تهريب أسلحة وأفراد عبر الحدود اللبنانية، وبخاصة في منطقة البقاع الشمالي، على حد قوله.

وتحدث عن تنسيق أمني وعسكري انطلق من لبنان، برعاية “حزب الله”، لدعم المجموعات المسلحة التي تقود الانتفاضة المضادة في الساحل السوري، معتبراً أن الحزب ليس بالضرورة مشاركاً عسكرياً بصورة مباشرة، لكنه يسهم بالتأمين اللوجيستي والاستخباراتي لهذه العمليات.

وبحسب تقديرات حمادة فإن المعركة لم تحسم بعد، والحكم الجديد في دمشق لم يتمكن من السيطرة الكاملة على الوضع في الساحل السوري، إذ ما زالت الاشتباكات مستمرة، وسط مكامن ومعارك انتقامية نفذتها مجموعات موالية للنظام السابق، لافتاً إلى أن الرئيس أحمد الشرع لا يزال يتمتع بغطاء عربي ودولي، مما يجعل إعادة الأسد أو عودة النظام القديم أمراً مستحيلاً، كما أن عودة روسيا كلاعب رئيسي في سوريا باتت غير ممكنة بعد انهيار وجودها العسكري داخل المنطقة.

أربع دول

وفي سياق مرتبط، لفت الكاتب السياسي الدكتور وليد صافي إلى أن التطورات في سوريا ليست بمعزل عن المشهد الإقليمي الأوسع، محذراً من أن أي تغيير في توازن القوى هناك ستكون له انعكاسات مباشرة على لبنان والمنطقة ككل، معتبراً أن لإيران دوراً أساساً بإشعال الفوضى في الساحل السوري، في محاولة لإعادة نفوذها.

وأكد أن طهران التي لم تتقبل تراجع نفوذها في سوريا، تعمل على خلق سيناريو فوضوي جديد انطلاقاً من الساحل السوري، وذلك كجزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى العودة إلى سوريا والتأثير في الداخل اللبناني.

وأضاف أن إيران، التي خرجت من سوريا “من الباب”، تحاول الآن العودة “من النافذة”، مستغلة الظروف الإقليمية الراهنة. وهذا التحرك، سيترك تداعيات مباشرة على الوضع اللبناني، إذ لا تزال طهران متمسكة بخيار “المقاومة” كوسيلة لبسط نفوذها في الشرق الأوسط.

وحول الدور الإقليمي في سوريا، أشار صافي إلى أن تركيا وإسرائيل تلعبان أدواراً محورية في رسم مستقبل البلاد. فإسرائيل، في رأيه تسعى لتقسيم سوريا إلى أربع دويلات:

1. دويلة جنوبية تحت الحماية الإسرائيلية.

2. كيان كردي في الشرق بدعم أميركي-إسرائيلي.

3. منطقة سنية في الشمال تحت النفوذ التركي.

4. دويلة علوية في الساحل تحظى بالدعم الروسي.

ولفت إلى أن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول “حماية الدروز” في جبل العرب ليست سوى غطاء لخطة تقسيم سوريا، مشيراً إلى أن التنسيق الروسي-الإسرائيلي في الساحل السوري يندرج في هذا السياق، مؤكداً أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين ما يجري في الجنوب السوري وما يحدث في الساحل، إذ تلعب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) دوراً مؤثراً في دعم بعض الفصائل داخل السويداء، مما يعكس تداخلاً معقداً بين الأطراف الفاعلة في النزاع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى