تحليل السياسات

ورقة توم براك خريطة طريق… لكن إلى أين؟

ندى أندراوس_"المدن"

في خضم الحراك الدبلوماسي المكثف على الساحة اللبنانية، برزت الورقة التي قدّمها الموفد الأميركي توم براك إلى المسؤولين اللبنانيين بوصفها خريطة طريق شاملة تتقاطع عند عدد من الملفات الأساسية، وتجمع بين الأمن والسيادة والإصلاحات والعلاقات الإقليمية. هذه الورقة ليست غريبة عن مضمون ما نقله براك شفهياً إلى رئيس الجمهورية ورئيسي مجلس النواب والحكومة، إذ تشكل إمتداداً لرؤية أميركية متكاملة تسعى إلى مقاربة الملف اللبناني بأبعاده الداخلية والخارجية، عبر آلية «الخطوة مقابل خطوة.”

بنود وردود
في إجتماعاته مع كل من رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نواف سلام، سلّم براك المسؤولين اللبنانيين هذه الورقة رسمياً، والتي جرى درسها بتأنٍّ من قبل فريق مشترك يمثل الجهات الثلاث. وقد تمّت صياغة أجوبة لبنانية رسمية على عدد من بنودها، فيما وُضعت ملاحظات على نقاط أخرى تحتاج إلى مزيد من التعمق والتمحيص. وبحسب المعطيات، فإن براك، عند عودته المرتقبة إلى لبنان، سيتسلّم هذه الردود لمناقشتها مع الجهات الأميركية المعنية قبل الانتقال إلى مراحل تنفيذية محتملة.

خطوة مقابل خطوة
تنقسم الورقة إلى عدة محاور أساسية، أولها الأمن، وتحديداً مسألة السلاح في الجنوب، لاسيما جنوب نهر الليطاني، وكذلك في الشمال منه، والاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب البند الاقتصادي الذي يتصل بالمساعدات الدولية المنتظرة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بالاضافة إلى ملف العلاقة مع سوريا.

أحد أبرز البنود المطروحة، ويعدّ بمثابة العنوان المركزي، هو آلية “خطوة مقابل خطوة”. وفق هذا المبدأ، يُفترض أن يقدم كل من لبنان وإسرائيل على إجراءات متقابلة، بحيث تنسحب إسرائيل مثلاً من نقطة تحتلها، على أن يقابل ذلك إجراء لبناني كنزع سلاح حزب الله من موقع ما شمال الليطاني. إلا أن جوهر الخلاف لا يزال يتمحور حول من يبدأ أولاً: إسرائيل تطالب أن يكون لبنان مبادرا، فيما يصرّ لبنان على أن الانسحاب الإسرائيلي أو إطلاق الأسرى يجب أن يشكل الخطوة الافتتاحية.
مصادر مطلعة على مضمون الورقة أوضحت لـ”المدن” أن كل ما يُشاع عن جداول زمنية محددة هو غير دقيق، لكن الأكيد أن معادلة “خطوة مقابل خطوة” ستسير على مراحل، وفق شروط نضوج كل مرحلة، وقد تمتد على فترة طويلة نسبياً. وعندما يتم التوصل إلى إتفاق نهائي، يُصار إلى وضع خطة زمنية لتنفيذ كل بند. على سبيل المثال: إذا تقرر أن الخطوة الأولى هي إنسحاب إسرائيل من إحدى التلال، يُحدّد موعد لذلك، ويقابله موعد موازٍ لسحب سلاح حزب الله من أحد المواقع شمال الليطاني.
ويواكب “الخطوة مقابل خطوة” إنتشار للجيش اللبناني في كل منطقة تنسحب منها إسرائيل، على غرار ما حصل سابقاً عند بدء سريان إتفاق وقف إطلاق النار. وتشير المعلومات إلى أن الجيش، في سياق دوره، يتعامل مع ما يتوفر له من معطيات أمنية. إذ لا يتلقى معلومات مباشرة من حزب الله بشأن مواقعه أو مخازنه، بل يعتمد الجيش على جهوده الاستخباراتية.

وعند اكتشاف أي مخزن للسلاح، يصادر الجيش ما يحتاج إليه، ويتلف ما لا حاجة له به، في سياق ممارسة سلطته الأمنية.

تعهد براك، بفتح ملف التمديد لمهمة قوات الطوارىء الدولية في الجنوب – اليونيفيل، وتمسك لبنان بالحفاظ على وجودها، مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خصوصا وأن إلادارة الاميركية تتحفظ على التمديد لليونيفيل، لاسيما على الاستمرار بمساهمتها في حصتها من التمويل لها في الامم المتحدة. ومن المرتقب أن تتبع الولايات المتحدة سياسة دعم مشروطة بالإصلاحات، وتقدم المساعدة تبعاً لحجم التقدم المنجز من قبل الدولة اللبنانية، وخصوصاً على الصعيد الأمني في ما يتعلق بتنفيذ الـ1701 على كامل الاراضي اللبنانية، وبالتوازي على صعيد إنجاز الاصلاحات التي تصر عليها المؤسسات الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين.

الإصلاحات مقابل الاستثمارات
في ما خص الإصلاحات، أبلغ براك الرؤساء أن لبنان أحرز بعض التقدم، لكنه غير كافٍ. الضغوط تتزايد لتسريع الخطوات الإصلاحية من دون أعذار أو مماطلة. الرهان بات على أن يُنجز لبنان المطلوب قبيل الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول المقبل، ما يشكل اختباراً جديداً للسلطة الحالية.

كما أن الفرصة الدولية المهمة التي تلوح في الأفق هي المؤتمر الذي يحضّر له الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الخريف المقبل لدعم لبنان. وفي هذا السياق، بات الوقت داهماً وعلى الحكومة اللبنانية الإسراع في بلورة ملف إصلاحي متكامل وجاهز يُعرض أمام المشاركين.
في المقابل، طمأن براك اللبنانيين بأن الولايات المتحدة لن تغيب عن الاستثمار في لبنان، وخصوصاً في ملف النفط والغاز، الذي سيُعاد تحريكه ضمن أجندة أميركية واضحة، طبعا في حال أنجز لبنان ما هو مطلوب منه.

العلاقة مع سوريا
على مستوى العلاقة بين لبنان وسوريا، وباعتبار أن براك هو الموفد الأميركي إلى دمشق أيضاً، فقد أبلغ بوضوح أن بلاده لا تعارض التعاون بين البلدين، خصوصاً في ملف النازحين السوريين. لكن بحسب ما كشفت مصادر مطلعة لـ”المدن” فثمة تباين في المقاربة: واشنطن تتحدث عن “العودة الآمنة والطوعية”، فيما يصرّ لبنان على “العودة الآمنة”، ما يستدعي معالجة دقيقة لهذا الامر، ويبقي الملف مفتوحا على النقاش، لاسيما أن لبنان لا يرى أي مبرر لاستمرار بقاء النازحين في لبنان وعدم تشجيع الحكم الجديد في سوريا لعودتهم.

أما الملف الأكثر حساسية، فهو ضبط الحدود اللبنانية – السورية، وهو أولوية لبنانية يتبناها رئيس الجمهورية، إنطلاقاً من ضرورة إنهاء فوضى التهريب والنزوح واحترام السيادة اللبنانية. وفي هذا المجال، أُرفقت الورقة بملاحظات لبنانية تستند إلى مواقف رئاسية طالما شددت على هذه العناوين.

عودة براك معلقة؟
على الرغم من أن طوم براك أعطى لنفسه مهلة ثلاثة أسابيع للعودة إلى لبنان منذ زيارته الأولى، إلا أن الحرب التي اندلعت بين إيران وإسرائيل واستمرت إثني عشر يوماً، أرخت بثقلها على أجندة المنطقة، فأرجأت كل المواعيد الدبلوماسية، وبينها زيارة براك الثانية، التي باتت معلقة حتى إشعار آخر، أو أقله غير محددة.

في الخلاصة، يمكن القول إن واشنطن تخوض إختباراً في لبنان لتطبيق آلية تدريجية تشمل إنهاء سلاح حزب الله والمجموعات المسلحة الاخرى، وتنفيذ الإصلاحات، وضبط الحدود، وتعزيز السيادة، ضمن مقايضة سياسية شاملة. غير أن هشاشة التوازنات الداخلية، وضبابية المشهد الاقليمي لاسيما بعد حرب إيران وإسرائيل ودخول الولايات المتحدة على خط المواجهة، كل هذه العوامل وحساباتها تجعل الواقع اللبناني مفتوحا على إحتمالات متعددة، خصوصا إذا لم تلتزم الدولة اللبنانية بما عليها من موجبات مطلوبة منها أميركيا ودوليا وعربيا وفي أسرع مهل ممكنة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى